الأربعاء، 16 ديسمبر 2015

أصول التعذيب في الأدب: برناردت ج. هروود



ترجمة ممدوح عدوان

Sculpture by Olivier de Sagazan
في كل عام تظهر كمية هائلة من القصص التي تعالج، ولو جزئياً، الوحشية الجسدية. وعلى الرغم من أن السادية- المازوشية قد لا تكون في صلب الموضوع إلاّ أنها تكون متوفرة في نسبة كبيرة من القصص. وأحد الأدلّة على ذلك يبدو في عدد المبيعات الهائل لما يسمى مدرسة الكتابة البوليسية الواقعية. إن شعبية الملف الأدبي تعكس ذوق المجتمع. فالذين لا يستطيعون، لسبب أو لآخر، أن يخلقوا الجحيم الذي يتوقون إليه، يشبعون رغباتهم في العالم الخيالي للكتب وأفلام السينما والتلفزيون.
وكل من يستطيع القراءة هذه الأيام صار على صلة بكلمتي السادية والمازوشية. وما لا يعرفه إلا القلة أن كلاً من التعبيرين يمدّ جذوره العميقة في عالم الأدب. ولقد اشتقت الكلمتان من إسمي نبيلين أوربيين هما الكونت دوناتييه ألفونس فرانسوا دو ساد والفارس ليوبولدفون ساشر مازوش. ومن المستحيل البحث في الجوانب الأدبية للتعذيب دون التنقيب عن دو ساد الفرنسي وساشر- مازوش النمساوي وليس فقط أن كتاباتهما تمثل الحد الأقصى المتطرف من حالة شذوذ جنسي محدودة بل إن قصتي حياتهما الشخصيتين تساهمان في توضيح كيف أن اسميهما قد اندرجا بين التعبيرات العلاجية السريرية.
ولد الماركيز دو ساد في الثاني من حزيران عام 1740 في احدى أبرز العائلات في وسط النبلاء الفرنسي. ولد معه لقب ماركيز ثم ورث لقب الكونت بعد موت والده. إلا انه وقد كون شهرته قبل موت الأب فإن اللقب الأول أكثر شيوعاً. وكان عدد من أسلافه قد أرسوا مكانة متميزة للعائلة كرجال دين وأبطال عسكريين ورجال دولة. وما من شك أن أشهر أسلافه جدته ني القرن الرابع عشر لورا دونوف التي خلدها بترارك في شعره ثم أصبحت زوجة هيغو دوساد مؤسس العائلة.
قضى المركيز الصغير السنوات الأربع الأولى من حياته مع أمه، وهي ابنة أخ الدوق دوريشيليو سيء الصيت ووصيفة الأميرة دو كوندي من آل بوبورن. وأفسد دوناتيين، الطفل الجميل ذو الشعر الذهبي الطويل والعينين الزرقاوين الواسعتين والتفاصيل الدقيقة بالتدليل والملاطفة اللذين كان يجدهما عند كل من حوله. لم يكن ليمنع عنه أي وجه من وجوه الرفاه. ولما كان قد أظهر دلائل النجابة منذ أن كان في الرابعة فقد بدا يزعج من هم أكبر منه. وعلى الرغم من أنه كانت له ملامح ملاك إلاّ أن مزاجه كان شيطانياً. فحين لا يفعل ما يشاء يتحول إلى منطو حقود. وبكلماته هو كان «مغروراً متسلطاً سريع الغضب.»
إلاّ أنه لم يكن أمراً غير عادي أن تبرز هذه المواصفات في نبيل غرّ أيام لويس الخامس عشر؛ وبالنسبة لـ دو ساد فقد كانت المسألة كامنة في أنه أذكى ممن هم أكبر منه. وكان ذلك مفسداً ليافعي القرن الثامن عثر مثلما هو مفسد اليوم. ومع الأيام أرسل الغلام إلى المقر الريفي لعمه فرانسوا، وهو كاهن بحاثة هجر الحياة الدنيا في باريس وانقطع إلى الدراسة والتأمل. وهناك نمى الماركيز تعطشه للمعرفة وحبه للكتب. وحين أصبح  في العاشرة من عمره انخرط في الجزويت في( كلية لوي دوغراندا) في باريس.
وحين صار عمره أربعة عشر عاماً كان قد حصل على ثقافة عالية. تفوّق في اللاتينية واليونانية وتألق في المبارزة والمناقشة والتمثيل والفنون الجميلة وأسفر عن موهبة متميزة في الرسم والنحت. وفي ذلك الحين أيضاً غرق في الملذات الجنسية التي ميزت فرنسا القرن الثامن عشر ما قبل الثورة. وتحول إلى رحالة في دروب الجسد في فترة خدمته العسكرية ما بين 1754 و1963. ولقد قضى جزءاً من هذه الفترة العسكرية في ألمانيا حيث اشترك في حرب السبع سنوات. والجانب الوحيد الذي كان يستمتع به في حياته العسكرية هو الاستمتاع بالإجازات، وكان أفضلها ما يقضي في المباغي حيث كانت الممارسات الجنسية الغريبة تعمل على إثارة الشهوات المتخمة لدى الزبائن الأرستقراطيين.

الأربعاء، 4 نوفمبر 2015

سـاد: جورج باتاي

ترجمة محمد عيد إبراهيم 
                                                                      
                                                                
وسط هذه الملحمة الملوكيّة نرى رأساً عاصفاً يومض، صدراً ثقيلاً يعبر مع البرق، الرجل القضيب، لمحة مهيبة ساخرة تلوي قسماته مثل تيتان(1) شبحيّ سامٍ؛ نحسّ برِجفة المطلق في الصفحات الملعونة، بأنفاس المثال العاصف بين هاتَين الشفتَين الحارقتَين. ادنُ قريباً فستسمع شرايين روح كلية، أوردةً متورّمة بدم قدسيّ تنبض في جثّة نازفة موحلة. مثل هذه البالوعة منقوعة في لازَوَرديّ، ثمة عنصرٌ نظيرُ إلهيّ بهذه المراحيض. سُكّ أّذنكَ عن قعقعة الحِراب وقصف المدافع؛ حوِّل عينكَ عن هذا المدّ الجوّال من الحرب، من الانتصارات أو الهزائم؛ فقد ترى شبحاً هائلاً ينفجرُ أمام الظلال؛ قد ترى قامةً رحبةً مشؤومة للماركيز دو ساد وهو يتبدّى فوق دهرٍ مخيطٍ بالنجوم. 
سوينبرن(2)

Depiction of the Marquis de Sade
 by H. Biberstein
لماذا زوّدتنا فترة الثورة بأمجادٍ من الفنون وعالمٍ من الرسائل؟ عنفٌ مسلّح منسجم بصعوبة مع ثراء الميدان الذي نستمتع به وقت السلام. تُبدي الصحفُ مصيرَ الإنسان بكلّ ما فيه من ذعر. هي البلدة نفسها، لا أبطال المآسي والروايات، تهب العقل رجفة مما تزوّدنا به من شخوص خيالية. أي رؤية فورية للحياة بائسة بالمقارنة مع تلك التي يفصّلها المؤرّخ بذكرياته وفنونه. لكن لو طبّقنا الشيء ذاته على الحبّ، الذي تقع حقيقته الجلية في الذكريات [كثيرة هي غراميات الأبطال الخرافيين، تبدو لنا عادةً حقيقيةً أكثر ممّا لدينا]، أَمِن الحقّ القول إن لحظة الحريق، حين يتكشّف منقوصاً بوعينا البليد، تستغرقنا كلياً؟ زمان التمرّد غير مرغوب فيه أساساً مع تطوّر الفنون. من اللمحة الأولى نرى الثورة فترة مجدبة في الأدب الفرنسيّ. ثمة استثناء واحد قد نقدّمه، لكنه يتعلّق برجل غير معتَرَف به ـ كان، وهو حيٌّ، ذا سُمعة، لكنها سُمعة سيئة: حالة ساد، فهو استثنائيّ جداً، يبدو أننا نؤكّد هذا الجدب بدلاً من إنكاره. 
لنبدأ فنقول إن الاعتراف بعبقرية ساد وجماليات ومغزى عمله مستَجدّ. وساهمت في ذلك كتابات جون بولون(3)، بيير كلوسوفسكي(4)، وموريس بلانشو(5). لم يحدث قبلها هذا الثناء الرائع الذي ساهم في تأسيسٍ بطيء بل أكيد لسُمعة ساد.  

ساد واقتحام الباستيل
ترتبط حياة ساد وأعماله واقعياً بحوادث تاريخية، لكن بأغرب طريقة ممكنة. فلم يكن الحسّ بالثورة من "معطيات" أفكاره، إن كان ثمة رابط كهذا بين العناصر المتفاوتة لشكله اللامنتهي ـ بين الدمار وبعض الصخور، أو بين الليل والصمت. وعلى رغم أن ملامح هذا الشكل تظلّ محيرة، إلا أن الوقت قد حان لتبيانها.  
لبعض الحوادث قيمة رمزية أكبر من اقتحام الباستيل. في الاحتفالية لإحياء ذكراها، يحسّ كثير من الفرنسيين بما يوحّدهم مع سيادة بلدهم وهم يشاهدون وشمَ مِشعلةٍ تتقدّم عبر الظلام. هذه السيادة الشعبية، وهي هائجة متمرّدة، صرخة لا تُقاوَم. وليس ثمة رمز احتفاليّ أفضل من التدمير المتمرّد لسَجن. الاحتفالية، كسيادة بالتحديد، هي جوهرُ إطلاق السراح، منه تتقدّم سيادة عنيدة. لكن، هل ينقص الحدث عنصر من المصادفة، هل تنقصه نزوة، لكيلا تكون له الأهمية ذاتها: ولهذا فهو رمزيّ، متباين عن الصيغة المجرّدة.   
يُقال إنه لم يكن لاقتحام الباستيل حقاً تلك الأهمية التي تُعزَى إليه. وهو أمر ممكن. فلم يكن في يوم 14 يوليو 1789 أيّ مساجين ذوات قيمة. وقد تأسّس الحدث من سوء تفاهم، سوء تفاهم، وفقاً لـ ساد، ابتدعه هو نفسه. ويمكن القول إن هذا العنصر الملتبس هو ما يمنح الواقعة بكاملها تلك النوعية العمياء، المجهولة نسبياً، من دون أن تكون أكثر من استجابةٍ لإملاءات الضرورة، كما يحدث في مصنع. لا تُنكر النزوة، أو المصادفة جزئياً الاهتمام الناشئ مع 14 يوليو، بل تمنحه أيضاً الاهتمام الطارئ.
حينما قرّر الناس أنه حدث سيرجّ العالم، إن لم يحرّره، كان أحد المحرَّرين المشؤومين في الباستيل هو مؤلّف "جوستين"، وهو الكتاب الذي يؤكّد لنا جون بولون في مقدمته أنه سيعرض أمامنا مسألة عويصة استغرقت حوالي قرن من الزمان للردّ عليها. سُجن ساد عشر سنوات وفي الباستيل منذ 1784. وهو أحد أكثر الناس تمرّداً وغضباً حين يتكلّم عن التمرّد والغضب، بإيجاز، هو وحش، مسكون بفكرة الحرية المستحيلة. أما مخطوطة "جوستين" فكانت في الباستيل حتى يوم 14 يوليو، لكن، مثلها كمخطوطة "120 يوماً في سدوم"، مهملة بزنزانة فارغة.
نعرف أن ساد كان يخاطب الحشود قبل يوم من الانتفاضة. يبدو أنه استغلّ الأنبوب المستعمل لصرف مياه المجاري كمكبّر صوت مدوٍّ، ومن بين أفعاله التحريضية الكثيرة كان هتافه عالياً بضرورة ذبح المساجين. وهو أمر متّسق مع الطبيعة التحريضية لحياته وأعماله كافّةً. لكن الرجل الذي يرزح تحت الأصفاد من عشر سنين كتجسيد غاضب منتظراً إطلاق سراحه من وقت طويل، لم تُطلق سراحه "غضبة" الدهماء. قد يحدث غالباً أن يسمح لنا الحلم بلمحة مكروبة عن إمكانية تامة تتكشّف في اللحظة الأخيرة جواباً محيّراً يُرضي رغبةً ساخطة. سُخط السجين يعيق إطلاق سراحه ثمانية أشهر. لقد طلب الحاكم نقل ساد، الذي كان متّفقاً بوضوح مع الثائرين. حين تحطّم المزلاج وملأ الدهماء الممرات، كانت زنزانته فارغة. تسبّب الهياج في فقدان المخطوطات المبعثرة من مؤلفّات الماركيز. 120 يوماً في سدوم، أول الكتب المعبّرة عن الغضب الحقيقيّ الذي كان يحمله وعليه أن يسيطر عليه ويكتمه، الكتاب الذي قد يُقال إنه سيهيمن على الكتب كافّةً، اختفى. وبدلاً من تحرير مؤلّفه، ضيّع الدهماء المخطوط الذي كان التعبير الأول عن الرعب الكامل من الحرية. 
كان 14 يوليو تحرراً عن حقّ، لكن بحسّ خفيّ من الحلم. ومع أنهم قد عثروا على المخطوط فيما بعد، ونُشر في عصرنا، إلا أن الماركيز نفسه سُلب منه. ظنّ أنه راح للأبد، مما ملأه باليأس. فكتب «هي أكبر محنة كانت السماء تجهّزها لي». ومات، من غير أن يعي أن ما فُقد بلا عودة سيصادفونه، فيما بعد، ويُنشر ضمن "آثار خالدة من الماضي". 

الاثنين، 1 يونيو 2015

باروخ سبينوزا والماركيز دو ساد: كاتي يونغ


ترجمة: محمّد غيث الحاج حسين


Baruch Spinoza


تتقصّى هذه الورقة بعض الاختلافات والتشابهات بين فيلسوفي التنوير الراديكاليين باروخ سبينوزا والماركيز دو ساد، عبر مناقشة ثيمتين رئيسيتين من فلسفتهما، مفاهيمهما الميتافيزيقية عن الله والطبيعة، والأفكار حول الدين والأخلاق. من خلال المقارنة بين سبينوزا ودو ساد نقع على اختلافين اثنين، علاوة على ذلك نقع على مفاهيم مرتبطة بانبثاق العالم من البيئة الفلسفية للتنوير الراديكالي في أوربا.
اشتهر المركيز دو ساد بسبب أعماله الغروتسكية، الشائنة، وأعماله الداعرة التي عرفت فيما بعد بالسادية. سمعته كشخص دنيء وكريه، التي أول ما قدمت في مجتمعه، التصقت بعقول الكثير ممّن يسمعون باسمه اليوم. ولكن ما لا يعرفه الناس اليوم هو أنه يقف كمثال رائع على فلسفة التنوير معتمداً على عمل مفكّري التنوير الراديكاليين الرئيسيين، من أمثال باروخ سبينوزا. نحن نعلم أنّ دو ساد كان مطلعاً بشكل جيّد على مفكّر من طراز سبينوزا، فغالباً ما كانت شخصيات دوساد الخليعة، تمتلك وجهات نظر فلسفية، وتذكر سبينوزا وزملائه بالاسم كأمثلة على فكر رائع وعميق (بلوخ 2007، 5).
سأقارن في هذه الإضاءة بين فلسفة المركيز دو ساد وباروخ سبينوزا. وسأرسم أربعة خطوط رئيسية للمقارنة تبدأ بالتصورات الميتافيزيقية عن الله والطبيعة، لأصل إلى استنتاجات كلا الرجلين بالنسبة إلى الدين والأخلاق. هذا التحليل سيتطوّر من خلال قراءة خاصة لكتاب المركيز دو ساد "الفلسفة في المخدع" (1795)، وكتاب سبينوزا، "مقالة في اللاهوت السياسي" (2004)، وكتاب ستيوارت هامبشير "سبينوزا والسبينوزية" (2005). في مقارنة هذه الأعمال سأحاول أن أسلط الضوء على تأثير فكرة التنوير الراديكالي على الجانب التنويري في فلسفة الماركيز دو ساد. أبدأ بفحص تصورات المركيز دوساد عن الله والطبيعة قبل الدخول في مسألة كيف يمكن أن يُرى أثر سبينوزا، بالإضافة إلى تعليقاته المفترضة حول فلسفة دو ساد.
أولاً وقبل كل شيء فإنّ دو ساد ملحد ومادّي (Bloch 2007, 117). هو ينكر أيّ ذكر لله، وبالذات "الله" كما تقدّمه الكنيسة المسيحية. في غياب الله، يجب أن تأخذ الطبيعة دور الخالق، وأيضاً كما سنرى لاحقاً، دور الوسيط في الأخلاق. ينبذ دو ساد، ويشبه سبينوزا في ذلك كثيراً، الربّ المسيحي «قمّة العقل الإنساني، ليس سوى الشبح خلق هذا العقل ليطور عملياته فقط» (دو ساد 2007، 22). دوساد لن يعترف بالله حتى يثبت العقل والمنطق وجوده، الأمر الذي يراه مستحيلاً. هذا الإنكار للربّ المسيحي كمادّة للعقل، يعطي الدليل على تأثير سبينوزا الفكري على دو ساد، ولكن يضعه بثقة في التنوير، بتركيزه على العقل الإنساني كاختبار مطلق للحقيقة.
يتابع دو ساد في دعم استنتاجاته. فهو يحدّد غاية الله وحضوره في العالم، بقوله إن الله إن كان موجوداً فسيكون مفيداً فقط، في بداية كل شيء ليضع الأشياء في الحركة، كونه المحرّك الأول. حالما ينتهي من هذا الفعل سيكون ملغياً بالنسبة لمخلوقه، من خلال فضيلة الحركة والقوة المبدعة المتأصلة في الطبيعة (دو ساد، 207، 22). الافتراض بوجود ربّ راسخ كما تحاجج الكنيسة، سيبدو رسوخه "مقيتاً" بالنسبة للبشر الراشدين، فالسماح للشيطان بتهييج العالم بقدرته الكلية يمكنه من التدخل بسهولة. لماذا، هو يسأل، يعبد الإنسان خالقاً مرعباً كهذا؟ فكرة أنّ الشيطان موجود في العالم، أو في الحدّ الأدنى الظلم، تدعم حجة دو ساد ضدّ الله. إن كان كاملاً، فإنّ ألوهيته يجب أن تكون كذلك، وسوف لن يقبل الظلم في العالم. على أية حال وكما يرى الكثيرون، فالطبيعة غير عادلة في كثير من الأحيان؛ هذا الصراع سوف يضع الله في كفاح راسخ ضد الطبيعة، منكراً وضعه كخالق ثابت (22).
هنا يحيلنا دو ساد، وبشكل خاص جداً، إلى تأثير سبينوزا. فهو ينكر بشكل مباشر إمكانية أن يكون الله والطبيعة من جوهر واحد، المبدأ الذي يشتقّ منه كل نظام سبينوزا الميتافيزيقي (Hampshire 2005 40)  دو ساد يؤكد أن هناك جوهرين في الكون (رغم أنه لا يشير إليهما مباشرة كجوهرين، ولكن كأشياء): "الخالق والمخلوق" (دو ساد 2007، 22). التحدي الوحيد هو تبيان ماهية الخالق، كشيء غير الله، يدعى الطبيعة.
القدرة المتأصلة في الطبيعة (كما يشير سبينوزا أيضاً) تسمح لها أن تخلق وتعالج المسألة دون حاجة إلى "عنصر غريب" أو إله (دو ساد 2007، 22). في الطبيعة يمكن لنا أن نتحقق من أسباب وتأثيرات تغيراتها، بما يسمح "لنزواتها" أن تكون معروفة من قبلنا. هذا الأمر مقترناً بموقفنا، كجزء من الطبيعة، يسمح لنظامها أن يُدرك من قبل العقل الإنساني. مع الله، ليست تلك هي المسألة. البشر لليوم لم يفهموا جميع المسائل في العالم، ولكن أن تكون الطبيعة سبباً حدسياً ومستمراً للتغير في العالم هو من الناحية المنطقية أكثر قابلية للإدراك من الإله كخالق. «كيف تريد مني أن أعترف بشيء لا أفهمه، شيء لا أعيه تماماً؟» (23). العقل والمنطق هما المفتاح المعياري لفحص ادعاءات من يزعم أنه الخالق الأصلي. دو ساد حين يركز على العقل والمنطق ويؤكد على أن الطبيعة يمكن أن تفهم منطقياً، فإنه متأثر بسبينوزا والتنوير الراديكالي. (للاطلاع على وجهة نظر سبينوزا، انظر هامبشير 41) على أية حال فإن تأكيده على ثنائية الخالق / المخلوق تكشف عن حالة دو ساد كمفكر تنويري رفيع.

الأربعاء، 27 مايو 2015

براهين ساد: موريس بلانشو

 ترجمة حسين عجة         
       

Sophie Sainrapt - Femme asiatique
       ظهرت قصة جوستين أو مآسي الفضيلة ثم أعقبتها قصة جولييت، أختها في عام 1797، في هولندا. سرعان ما شعر العالم بفزع من هذا العمل الضخم، المكوّن من أربع آلاف صفحة، والذي أعاد الكاتب كتابته أربع مرات وبالتالي توسّع حجمه؛ عمل متواصل ولا نهاية له. وإذا كان ثمّة من جحيم في المكتبات، فهو قائم في هذا الكتاب. كذلك يمكن القول إنه لم يتضمّن أدب أي زمان عملاً فضائحيّاً مثله، وليس هناك من مثيل له في تجريحه العميق لمشاعر وأفكار الناس. مَنْ الذي بمقدوره اليوم مضارعة ساد في إباحيته؟ أجل، يمكننا طرح ادعاء كهذا: لم يُكتب أبداً أي عمل أكثر فضائحية منه. ألا يشكل هذا مبرراً للاهتمام به؟ لدينا حظ اللقاء بعمل لم يوفق أيّ كاتب، في أية لحظة، في الذهاب بمغامرته أبعد منه؛ وهذا يعني أننا نمتلك بمعنى ما، وتحت إمرتنا تقريباً، مطلقاً حقيقياً (un véritable absolu)، في عالم لا يعير الأدب سوى اهتمام نسبي، ومع ذلك، لا نحاوره؟ ولا نتخيّل حتى مُساءلته عمّا يجعله غير قابل للتخطّي، وما العنصر الأشد تطرفاً فيه، الذي يجعله عصيّاً إلى الأبد على الإنسان؟ عدم اكتراث غريب. أو لن تكون الفضيحة خالصة إلا بفضل عدم الاكتراث هذا؟ فإذا ما تأمّلنا التدابير التي اتخذها التاريخ لجعل ساد لغزاً خارقاً، وإذا ما تخيّلنا الأعوام السبعة والعشرين التي قضاها في السجن، أي ذلك الوجود المُغلق والمُحرّمِ، حينما لا يطال الحبس حياة المرء وحسب، وإنما مجرد بقائه حتى، إلى حدّ يصبح فيه إخفاء عمله بمثابة الحكم عليه، وهو ما زال حيّاً، بالسجن الأبديّ، حينئذ يتساءل المرء إذا ما كان المراقبون والقضاة الذين أرادوا دفنه بين الجدران قد وضعوا أنفسهم بالأحرى في خدمة ساد، وبأنهم حقّقوا بهذا الأماني الكبرى لدعارته (son libertinage)، هو الذي طالما حلم بالعزلة في أحشاء الأرض، ضمن غرابة وجود تحت أرضيّ ومنزوٍ. لقد صاغ ساد، عبر عشر طرق، فكرة أن التجاوزات الكبرى للإنسان تقتضي السريّة، العتمة والهاوية، وكذلك عزلة زنزانة لا يمكن اختراقها. والحالة هذه، من الغرابة أن يصبح حرّاس الأخلاق أنفسهم، أي أولئك الذين حكموا عليه بالمنع، متواطئين مع أقوى أشكال اللاأخلاقية (immoralité). فأم زوجته، السيدة مونتري (Madame Montreuil) المحتشمةِ، التي حكمت على حياته بالسجن، قد جعلت من تلك الحياة عملاً رائعاً للعار (infamie) والفسوق (débauche). وإذا ما زالت جوستين وجولييت تبدوان لنا، بعد مرور العديد من الأعوام، الكتاب الأشدّ فضائحية الذي يمكن قراءته، فلأن قراءته مستحيلةً تقريباً، وكذلك لأن الكاتب، الناشرين، والأخلاق العامة (Morale universelle)، قد اتخذوا كلّ التدابير بغية أن يظل الكتاب سرياً، ولا يمكن قراءته (illisible) أبداً، لا يُقرأ بحكم سعته، تركيبه، تخمته ومن جانب صرامة توصيفاته وضراوة فحشه أيضاً، التي لا يمكنها سوى دفعه بعجالة نحو الجحيم. كتاب فضائحيّ، لأنه ليس بمقدور المرء الاقتراب منه، ولا يمكن لأحد جعله كتاباً شعبياً. لكنه كتاب يظهر أيضاً بأنه ليس ثمة من فضيحة، إذا لم يكن هناك إجلال (respect)، وحيثما تكون الفضيحة خارقة، يكون الإجلال في ذروته. منْ الذي يتمتع بإجلال أكبر من ساد؟ كم هو اليوم عدد أولئك الذين يعتقدون بعمق أنه يكفيهم الاحتفاظ بين أيديهم للحظات بذلك العمل الملعون (œuvre maudit) لكي يتحقق القول الغروريّ لـ روسو: كلّ فتاة تقرأ صفحة واحدة من ذلك الكتاب سوف تضيع؟ يشكل إجلالاً كهذا قطعاً كنزاً بالنسبة للأدب والحضارة. كذلك لا يمكن للمرء منع نفسه من الجهر بحذر لكلّ الناشرين والمعقبين في الحاضر والمستقبل عن الأمنية التالية: في ساد، احترموا على الأقل الفضيحة.

الأحد، 24 مايو 2015

حين يصير تاريخ الفن ساديّاً: آني لو براه ولورانس دي كار

حاورتهما: فلوريل غييوم
ترجمة: حمو بوشخار   
 

                                                              

* أي صلة تقيمينها بين كتابات ساد والفنون البصرية؟

آني لو براه: كل منهجية ساد تقوم على طرح سؤال غير قابل للتمثيل (l’irreprésentable) المرتبط بالرغبة. التي تعد واحدة من اﻻنشغالات العظمى لتاريخ التمثيل. بقول ما ﻻ نريد رؤيته، سيحتم ساد القرن 19 على كشف ما ﻻ نعرف قوله بعد. هذا هو الحبل الرابط لهذا المعرض.

لورونس دي كار: تأخذ بالنسبة لنا، مسألة التأثير الباطني لفكر ساد في اﻻعتبار اﻻنقلابات التشكيلية والأسلوبية العظيمة للقرن 19 ولجزء كامل من القرن 20 . يوجد هنا تشكيك في المعايير التي هيمنت لقرون عدة والتي أخذت في اﻻنهيار بالإنطلاق من نهاية القرن 18. لقد انسحبت في تلك الفترة، اﻻدعاءات الدينية والأسطورية. وصارت مسألة حدود التمثيل مركزية. إنها واحدة من رهانات الحداثة.

آني لو براه: بالإنطلاق من صورة الجسد، كيف نجسد هذه القوى التي ترجّنا. الرغبة والعنف، هذا الذي نسميه شراً؟ لأنه إذا تمت مرة خلخلة التصور المسيحي للعالم وكذا أجهزته ﻻحتواء ما يستطيع الإقلاق، فالبلبلة هي في نهاية القرن 18، كانت كذلك ضخمة كالحرية التي تترتب عن ذلك. وساد بطريقة متميزة يوضح كل الرهانات.

السبت، 9 مايو 2015

التمرّد، جنون الكتابة: موريس بلانشو

ترجمة: جورج أبي صالح
مراجعة: فريق مركز الإنماء القومي
       
1- قراءة ساد صعبة، إنه واضح، سَلِسَ الأسلوب، وذو لغة صريحة. إنه ينشد المنطق؛ يفكّر، ولا يهتم إلاّ بالتفكير؛ وهذا العقل، الخالي من الأحكام المسبقة، يتكلّم ليُقنع، وبالاستعانة بالحقائق التي يعطيها شكلاً عاماً، والتي تبدو له بديهية إلى حدّ أن كلّ اعتراض يُعزى بقوة إلى اعتقاد باطل. إنه يصبو إلى العقل، وبالعقل يهتم، بعقلٍ يقترحه على الجميع وسيكون موافقاً للجميع.
أظن أنه لا ينبغي نسيان ذلك أبداً، أي علاقة ساد هذه بعقل ما [من هنا الطابع البرهاني لأقل كتاباته والذي يهزأ به الواعظون]. وكيف ستنساه القراءة، وهي تصادف حالاً هذا الطموح، هذا الشرط المعقول، إنما كيف لا تنساه، وهي تصادف حالاً كل ما يلزم لدحضه: التناقضات الأكثر وقاحةً، حجج تنقلب، قضايا لا تصمد، تنافر أمانٍ ومبادئ نتفاجأ بها إما بشدّة وإما شيئاً فشيئا؟ يستطيع كلّ واحد أن يختبر ذلك بنفسه. ولن أذكر غير مثل عام واحد مقتبس من الكتيّب المشهور(1). ففي الجزء الذي يعالج موضوع الدين، يطالب المؤلَّف باستبعاد هذا الأخير إذا أردنا أن يكون عندنا مواطنون صالحون وآباء صالحون وأزواج صالحون؛ أمّا المبرّر الذي يثبت ذلك فهو أن رجالاً مذعورين، جهلة وأذلاّء، كما هم جميع المؤمنين، لا يستطيعون القيام بواجباتهم المدنية لكونهم قد فقدوا كلَّ إحساس بالحرية. لكنه، في الجزء الثاني، يوصينا بمثال مختلف تماماً، وإذا به يقترح علينا أولاداً بلا أب ويقرّ شيوع النساء وشيوع الرجال ويلغي العائلة أخيراً، وبتأكيد قوي يقول: «لا تتصوّروا أن تصنعوا جمهوريين صالحين ما دمتم تعزلون الأولاد الذين ينبغي ألاّ ينتموا إلاّ إلى الجمهورية داخل عائلاتهم». حسناً، ها قد اقتنعنا. لكننا في موضع آخر أو في الوقت ذاته، نتبيّن فكرة مختلفة كلياً: أولاد بلا أب، نعم، إنما ليس من أجل رفعة الجمهورية بل من أجل سهولة الفسق؛ النساء الشائعات للرجال [والرجال الشائعون للنساء]، ليس من أجل شيوعية شريفة للأعراف إنما لتيسير الاستمالة إلى البيوت المخصَّصة للدعارة؛ أما العائلة، فإذا كنّا لم نعد الآن مستعجلين لإلغائها، فذاك للحفاظ بوجه أفضل على الزنا، كما على كلّ الانحرافات التي ستزول معه، بدءاً بارتكاب المحارم الذي يكتب عنه ساد بدعابة خفيّة خاصة به: «أسمح لنفسي بأن أؤكد بأن ارتكاب المحارم يجب أن يكون قانون كلّ حكم يكون الإخاء أساسه». لنتوقف هنا. فإن قارئاً سوف يلقي الكتاب من يده مقتنعاً بخرق مؤلِّفه؛ بينما سيحتفظ به قارئ آخر بسبب هذا الخرق. وأعتقد أنهما سيكونان كلاهما على خطأ. ربما كان ساد مجنوناً مثلما لابدّ أن نكون جميعاً في أوقاتنا الليلية الحلوة، غير أن ما يكتبه لا يقع تحت طائلة هذا الحكم. والدليل هو أننا معرّضون لطريقة في الفهم تفوتنا، ومع ذلك تجذبنا. بسبب ذلك، فإننا، رغماً عنّا وعلى الرغم من رغبتنا في منطق بسيط، نستأنف القراءة، مجذوبين بحركة لن تتوقف من بعد.

الخميس، 7 مايو 2015

إِضَاءَاتٌ: الْـمَارْكِيـزْ دُو سَادْ

انتخاب وترجمة: رَشِيدْ وَحْتِي

Marquis de Sade by Boris Hergesic




Ce n’est point ma façon de penser qui a fait mon malheur, c’est celle des autres.
لَيْسَتْ طَرِيقَتِي فِي التَّفْكِيـر هِيَ الَّتِي تَسَبَّبَتْ فِي مَأْسَاتِي، بَلْ طَرِيقَةُ الْآخَرِينَ.
*
Quand l’athéisme voudra des martyrs, qu’il les désigne, et mon sang est tout prêt.
إِنِ احْتَاجَ الْإِلْحَادُ إِلَى شُهَدَاءَ، فَلْيُعَيِّنْهُمْ، وَدَمِي فِي أَتَمِّ الْاسْتِعْدَادِ.
*
Tout est bon quand il est excessif.
كُلُّ شَيْءٌ جَمِيلٌ حِينَ يَكُونُ مُسْرِفًا.
*
Je suis l’homme de la nature avant d’être celui de la société.
أَنَا إِنْسَانٌ يَنْتَسْبُ إِلَى الطَّبِيعَةِ قَبْلَ أَنْ أَنْتَسِبَ إِلَى الـمجْتَمَعِ.
*
Voir, c’est croire; mais sentir, c’est être sûr!
أَنْ تـرى يَعْنِي أَنْ تُؤْمِنَ؛ لَكِنْ أَنْ تُحِسَّ، فَيَعْنِي أَنْ تَتَيَقَّنَ!
*
Tout le bonheur des hommes est dans l’imagination.
كُلُّ سَعَادَةِ الْبَشَرِ تَتَجَلَّى فِي الـمخُيِّلَةِ.
*
Tous les hommes sont fous, et qui n’en veut point voir doit rester dans sa chambre et casser son miroir.
كُلُّ الْبَشَرِ مَجَانِينُ، وَمَنْ لَا يـريدُ أَنْ يَنْتَبِهَ إِلَى ذَلِكَ أَبَدًا فَمَا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَبْقَى فِي غُرْفَتِهِ وَيَكْسِرَ مِرْآتَهُ.

الثلاثاء، 21 أبريل 2015

مقدمة كتاب "الماركيز دي ساد" تأليف ستوارت هود وجراهام كرولي: إمام عبد الفتاح إمام


"أقدم لك.. هذا الكتاب..!"
هذا هو الكتاب الثلاثون في سلسلة "أقدم لك.."، وهو يدور حول الماركيز دي ساد (1740-1814) والسادية (Sadian) التي اشتقت من اسمه، وهو رجل غريب الأطوار: كاتب وأديب لا يملّ قراءة الكتب حتى أنه يحتفظ بمكتبة وهو في السجن، كما أنه صعلوك، وشاذ، ومنحرف، وفاسق، وفيلسوف، وصاحب استبصارات قوية حول الطبيعة البشرية حتى أصبح اسمه مذهباً شهيراً في علم النفس!. ومن هنا اختلفت فيه الآراء، فذهب البعض إلى أنه مجرم، بل شيطان آثم. وإنْ كان إنساناً فهو على أقل تقدير فاسق وفاجر، ولهذا استحق أن يقضي معظم حياته في السجن، كما حدث بالفعل، وأن يُكمل البقية الباقية منها في مصحة الأمراض العقلية وأن يموت فيها! وذهب آخرون إلى أنه يجسّد الانحراف (Perversion). بأنواعه المختلفة لاسيّما الانحراف الجنسي، وهو انحراف نتج عن كراهية شديدة لأمه ودفاع ضد خوفه من عقدة الخصاء (Castration). كما دفعته إلى الانتقام من الأنثى عموماً. ورأى فريق ثالث أنه فيلسوف عصر التنوير غير منازع، فقد سار بأفكار ذلك العصر حتى نهايتها، فأخذ بالمادية، والإلحاد، والإباحية، في أشد صورها تطرفاً!. بينما رأى فريق رابع أن السادية ليست مجرد شذوذ أو انحراف جنسي، بل إنها كانت سلاح دي ساد لارتياد آفاق مجهولة في الطبيعة الأساسية للأخلاق.
ومهما يكن من شيء فقد أصبح مصطلح "السادية" يعني في علم النفس الحديث اللذة الجنسية التي يجدها الإنسان في الانحراف الجنسي الذي يصطبغ بالقسوة، وإنزال الألم بالغير أثناء عملية الجنسية.
غير أن من الباحثين من يرى أن "السادية" ليست ظاهرة حديثة في حياة الإنسان، وإنما هي ظاهرة قديمة. وإن لم تشكل انحرافاً؛ فإن درجة معينة من "الممارسات السادية" تحدث في حياة معظم الناس، وهم على العموم يقومون بأفعال كثيرة مؤلمة مثل القرص والخدش، والعصر والعض وغيرها من الأفعال التي ينتج عنها بعض الآلام الخفيفة غير الضارة أو المؤذية، إلا إذا بلغت حدود التطرف والإيذاء لأي من المشاركين فيها..!

الأربعاء، 25 فبراير 2015

"ساد " في النص: فيليب سولليرز

ترجمة: محمد العرابي

"المادة ... تعريفها غير ممكن بغـير الاختلاف
 اللا مـنطقي الذي يمثل بالنسبة لاقتصاد
الكون نفس ما تمثله الجريمة بالنسبة للقانون".        جورج باطاي
                                                    
Marquis De Sade by Kalevipoeg
  المسألة المطروحة من خلال الاسم الممتنع ظاهريا للماركيز دي ساد يمكن تلخيصها بلا شك على هذا النحو: كيف يعقل أن النص السادي (نسبة إلى ساد) لا يوجد كنص بالنسبة لمجتمعنا وثقافتنا؟ ولماذا يصرُّ هذا المجتمع وهذه الثقافة على أن يرى في عمل من ثمرة الخيال، سلسلة من الروايات، مجموعة مكتوبة، شيئا أكثر تهديداً وخطورة من واقع، يمكن وحده أن يؤدي إلى ذلك؛ واقعٍ لن يكون منذئذ، نتيجة لهذه النبرة الخفائية التي يجد نفسه موسوماً بها، إلاّ واقعاً مقدساً؟
   كيف يعقل إذن، أن نصاً بهذه الضخامة، والإنسجام والتدقيق ويتم بشكل مفارق التصريح عنه، بأنه رتيب ومضجر، في حين يعتبر هو من بين النصوص الأكثر تميزاً وفرادة والأكثر إثارة في مكتبتنا، كيف يعقل إذن، أن هذا النص يقرأ أو ينشر في آن بشكل مجزأ، ويتم اختزاله في بعض الدلالات الكبرى، لكي تُنعت بعد ذلك بأنها دلالات فريدة؟ وزيادة في الدقة، كيف يعقل، أننا ننساق إلى طرح فكر ساد بمعزل عن كتابته، هذا الفكر الذي سيكون بحسب الحالات، وبحسب تقمصنا لدور المتَّهِم أو المتهَم، أي بحسب خضوعنا لصيغة من صيغ التعبير القضائي ومن ثم البلاغي، سيكون إما مرضياً ولا إنسانياً، أو لنقل: واضحاً، جريئاً، وتفسيرياً لحدث إسمه الإنسان؟
   كيف يعقل أن يظل ساد مرفوضاً ومقبولاً في آن: مرفوضاً كعمل تخييلي [ككتابة]، ومقبولاً كواقع؛ مرفوضاً كقراءة شمولية، ومقبولاً كمرجعية سيكولوجية أو فزيلوجية؟
   يمكن أن نجازف بتقديم إجابة على الفور: نحن لم نقرر بعد قراءة ساد، من منطلق أن القراءة الجديرة به، لا توجد في بنية هذا المجتمع وهذه الثقافة؛ والأهم، أن ساد يلغي جذرياً كل أنماط القراءة التي نواصل ممارستها وننوي القيام بها بشكل تعميمي. وهذا بالمعنى الذي يجعله يفترض وجود علاقة، محجوبة من طرف الخطاب وإن أصبحت نشيطة منذ زمن، تنظر إلى الفكر ليس باعتباره علة للغة، بل باعتبار أن اللغة لا علّة لها، وتنظر إلى الكتابة باعتبارها دالاً محضاً.
 لأن ما يبرز مع ساد هو تغيير عنيف، وكامل، للكتابة التي عانت طويلاً من الكبت من لدن الكلام الإلهي. وما يبدو أنه يقع تحت المظهر المتوحش للانحلال (perversion) ، هو بالضبط نقيض العصاب المؤسس من لدن حضارة قائمة على تمجيد هذا الكلام. وهذا تحديداً، ليس بالفوضى، بل مستوى من خلق العالم شرط أن يقاوم، لكونه تدميراً وإعادة إنتاج لمجموعة تقع نهباً للعبة بدئية، كل فكرة تفيد توقف عملية الخلق، وانتهاءها، وارتباطها بقصد معين.
وإذا كان لا بد من تعيين بؤرة للكتابة السادية، فلن تكون إلا هذه: إبطال كل سببيّة، بحيث أن هذا  الإبطال ينتهي  بعد أن  نقض الإله بالطبيعة، بالتضحية بالطبيعة في سبيل حركة لا متناهية من الكلمات تتضاعف وترتقي في دلالتها الخاصة: «إننا غير مرتبطين بالإله ولا حتى بالطبيعة، يقول ساد، الأسباب قد لا تكون ضرورية للنتائج».
فأن يتم أخيراً امتصاص العالم في خطاب مادي، وأن تعين الطبيعة تبعاً لذلك، كما كانت دائماً كجدلية سلبية للثقافة، وأن نتمكن إذن للحظة من الإقرار بهدوء: ينبغي على الطبيعة أن تمر عبر استيهام الثقافة – فهذا، لعمري، ما لا سبيل إلى غفرانه. ويكفي أن يوجد نص ساد في أي من مجتمعاتنا، لكي تتسلل إليه عدوى وباء ظلَّ كامناً وآن أوان ظهوره، وكي تطوح ريح صامتة بزيف المبادئ التي تقوم عليها معرفتنا، ولكي يُخلخَل مرتكزها الطبيعي والمعياري ويُلغَّم مرة واحدة وإلى الأبد.
   وعلى هذا النحو نكون قد نُبِّهنا إلى الحدّ الذي قررنا، رغماً عنّا، مواصلة العيش تحت سقفه. ومن المهم الآن مساءلة هذا التنبيه.

الخميس، 19 فبراير 2015

فصل من رواية جوستين: الماركيز دو ساد


ترجمة محمد عيد إبراهيم(*)

KEVIN LOMBARTE, Lumière sur l'épaule
على رغم الأشواك التي ظلت تخِز جوستين بسيرتها العصيبة مع الفضيلة، كانت تعود دائماً إلى الله ومشاعر الحبّ والتسليم. وقد أيقنت أن شفاعة إلهها الطيب الذي تعبده هي وحدها ما يسّر هروبها المعجز من محفل موتا العالي. تحسّ، مهما كان هذا الحسّ، أنه حاميها على الدوام. أفلم يوجَد من هو أكثر أسىً منها؟ نعم، وهي تمتنّ عميقاً لكلّ ما صنعت يداه.
بمثل هذه المشاعر ارتاحت جوستين في خان قرب بلدة ديجون.
بُعيد مسافة من ديجون، وقد أوشك المساء، انسلّ خلفها رجلان، فألقيا عباءة على رأسها لحجب رؤيتها أو صراخها، صفّداها كالمجرمين وهما يسحبانها دون أدنى كلمة للمضيّ معهما.  
سارا بها قرابة ساعتين على درب تُخفيه عيناها المعصوبتان. كانت تتنفّس بمشقّة، فاقترح أحدهما إفساح المجال لمزيد من الهواء. كشفا رأسها. خشيت أن يستعيدها عملاء النسّاك، فشلّها الخوف.   
قالت "إلى أين نذهب؟ وماذا ستفعلان بي؟"  
ردّ أحدهما "هدّئي من رَوعكِ، فلن نفعل شيئاً. لا تدعي ما نتّخذه من احتياطات يقلقكِ. سنأخذكِ إلى سيد عظيم. يريد خادمة لزوجته، وهو علّة هذا الغموض، لكن لن يلحقكِ أذىً".
"آهٍ سادتي، إن كان فيه سعادتي، فلماذا ترغموني. ولمَ الخوف من هربي؟ أنا يتيمة بائسة، أستحقّ الشفقة؛ وكلّ ما أطلبه مجرد مأوى!". 
قال أحدهما "هي على حقّ! فلنُرحها أكثر، فقط نمسك يديها". 
مسكاها وواصلا. ولدى رؤيتها خَنوعاً ساكنة، كلّماها برقّة. علمت منهما أخيراً أن من سيأخذانها إليه هو المركيز دي جرنان، نبيل ثريّ يعيش وحده بالريف.
"وحده؟"
"نعم، فهو زاهد فيلسوف. لا يكاد يرى أحداً".
سألت جوستين "ولمَ هذه الاستحكامات؟"
"السبب، كما سترين، أن زوجة سيّدنا عقلها مفكوك قليلاً. لا تترك حجرتها، ويجب مراقبتها طيلة الوقت. وطبعاً لا يبغي أحد وظيفة كهذه. فلو أخبرناكِ قبلها لتفاديت تقلّد الوظيفة، فاستوجب أن نأخذكِ عنوة". 
بكت جوستين "ماذا! أصبح أسيرة هذه المرأة!"
"طبعاً، وما في هذا! سيمضي كلّه على خير، وسنرعاكِ ـ لا تقلقي". 
"يا ألله!"
"هيا تعالي؛ لا أمر يدوم للأبد. كما أنها وظيفة مضمونة وفيها مال كثير".  
لاح أمامهم منزل كبير. يبدو خاوياً مهجوراً كلّما اقتربوا منه.
أُخذت جوستين إلى المركيز، وقد تمدّد بأريكة واطئة. قربه شابان في زيّ مُخَنّثين، دهنا شعريهما بزيوت عطرة. وجهان جميلان، شاحبان كأنهما مريضان.