الأربعاء، 25 فبراير 2015

"ساد " في النص: فيليب سولليرز

ترجمة: محمد العرابي

"المادة ... تعريفها غير ممكن بغـير الاختلاف
 اللا مـنطقي الذي يمثل بالنسبة لاقتصاد
الكون نفس ما تمثله الجريمة بالنسبة للقانون".        جورج باطاي
                                                    
Marquis De Sade by Kalevipoeg
  المسألة المطروحة من خلال الاسم الممتنع ظاهريا للماركيز دي ساد يمكن تلخيصها بلا شك على هذا النحو: كيف يعقل أن النص السادي (نسبة إلى ساد) لا يوجد كنص بالنسبة لمجتمعنا وثقافتنا؟ ولماذا يصرُّ هذا المجتمع وهذه الثقافة على أن يرى في عمل من ثمرة الخيال، سلسلة من الروايات، مجموعة مكتوبة، شيئا أكثر تهديداً وخطورة من واقع، يمكن وحده أن يؤدي إلى ذلك؛ واقعٍ لن يكون منذئذ، نتيجة لهذه النبرة الخفائية التي يجد نفسه موسوماً بها، إلاّ واقعاً مقدساً؟
   كيف يعقل إذن، أن نصاً بهذه الضخامة، والإنسجام والتدقيق ويتم بشكل مفارق التصريح عنه، بأنه رتيب ومضجر، في حين يعتبر هو من بين النصوص الأكثر تميزاً وفرادة والأكثر إثارة في مكتبتنا، كيف يعقل إذن، أن هذا النص يقرأ أو ينشر في آن بشكل مجزأ، ويتم اختزاله في بعض الدلالات الكبرى، لكي تُنعت بعد ذلك بأنها دلالات فريدة؟ وزيادة في الدقة، كيف يعقل، أننا ننساق إلى طرح فكر ساد بمعزل عن كتابته، هذا الفكر الذي سيكون بحسب الحالات، وبحسب تقمصنا لدور المتَّهِم أو المتهَم، أي بحسب خضوعنا لصيغة من صيغ التعبير القضائي ومن ثم البلاغي، سيكون إما مرضياً ولا إنسانياً، أو لنقل: واضحاً، جريئاً، وتفسيرياً لحدث إسمه الإنسان؟
   كيف يعقل أن يظل ساد مرفوضاً ومقبولاً في آن: مرفوضاً كعمل تخييلي [ككتابة]، ومقبولاً كواقع؛ مرفوضاً كقراءة شمولية، ومقبولاً كمرجعية سيكولوجية أو فزيلوجية؟
   يمكن أن نجازف بتقديم إجابة على الفور: نحن لم نقرر بعد قراءة ساد، من منطلق أن القراءة الجديرة به، لا توجد في بنية هذا المجتمع وهذه الثقافة؛ والأهم، أن ساد يلغي جذرياً كل أنماط القراءة التي نواصل ممارستها وننوي القيام بها بشكل تعميمي. وهذا بالمعنى الذي يجعله يفترض وجود علاقة، محجوبة من طرف الخطاب وإن أصبحت نشيطة منذ زمن، تنظر إلى الفكر ليس باعتباره علة للغة، بل باعتبار أن اللغة لا علّة لها، وتنظر إلى الكتابة باعتبارها دالاً محضاً.
 لأن ما يبرز مع ساد هو تغيير عنيف، وكامل، للكتابة التي عانت طويلاً من الكبت من لدن الكلام الإلهي. وما يبدو أنه يقع تحت المظهر المتوحش للانحلال (perversion) ، هو بالضبط نقيض العصاب المؤسس من لدن حضارة قائمة على تمجيد هذا الكلام. وهذا تحديداً، ليس بالفوضى، بل مستوى من خلق العالم شرط أن يقاوم، لكونه تدميراً وإعادة إنتاج لمجموعة تقع نهباً للعبة بدئية، كل فكرة تفيد توقف عملية الخلق، وانتهاءها، وارتباطها بقصد معين.
وإذا كان لا بد من تعيين بؤرة للكتابة السادية، فلن تكون إلا هذه: إبطال كل سببيّة، بحيث أن هذا  الإبطال ينتهي  بعد أن  نقض الإله بالطبيعة، بالتضحية بالطبيعة في سبيل حركة لا متناهية من الكلمات تتضاعف وترتقي في دلالتها الخاصة: «إننا غير مرتبطين بالإله ولا حتى بالطبيعة، يقول ساد، الأسباب قد لا تكون ضرورية للنتائج».
فأن يتم أخيراً امتصاص العالم في خطاب مادي، وأن تعين الطبيعة تبعاً لذلك، كما كانت دائماً كجدلية سلبية للثقافة، وأن نتمكن إذن للحظة من الإقرار بهدوء: ينبغي على الطبيعة أن تمر عبر استيهام الثقافة – فهذا، لعمري، ما لا سبيل إلى غفرانه. ويكفي أن يوجد نص ساد في أي من مجتمعاتنا، لكي تتسلل إليه عدوى وباء ظلَّ كامناً وآن أوان ظهوره، وكي تطوح ريح صامتة بزيف المبادئ التي تقوم عليها معرفتنا، ولكي يُخلخَل مرتكزها الطبيعي والمعياري ويُلغَّم مرة واحدة وإلى الأبد.
   وعلى هذا النحو نكون قد نُبِّهنا إلى الحدّ الذي قررنا، رغماً عنّا، مواصلة العيش تحت سقفه. ومن المهم الآن مساءلة هذا التنبيه.

الخميس، 19 فبراير 2015

فصل من رواية جوستين: الماركيز دو ساد


ترجمة محمد عيد إبراهيم(*)

KEVIN LOMBARTE, Lumière sur l'épaule
على رغم الأشواك التي ظلت تخِز جوستين بسيرتها العصيبة مع الفضيلة، كانت تعود دائماً إلى الله ومشاعر الحبّ والتسليم. وقد أيقنت أن شفاعة إلهها الطيب الذي تعبده هي وحدها ما يسّر هروبها المعجز من محفل موتا العالي. تحسّ، مهما كان هذا الحسّ، أنه حاميها على الدوام. أفلم يوجَد من هو أكثر أسىً منها؟ نعم، وهي تمتنّ عميقاً لكلّ ما صنعت يداه.
بمثل هذه المشاعر ارتاحت جوستين في خان قرب بلدة ديجون.
بُعيد مسافة من ديجون، وقد أوشك المساء، انسلّ خلفها رجلان، فألقيا عباءة على رأسها لحجب رؤيتها أو صراخها، صفّداها كالمجرمين وهما يسحبانها دون أدنى كلمة للمضيّ معهما.  
سارا بها قرابة ساعتين على درب تُخفيه عيناها المعصوبتان. كانت تتنفّس بمشقّة، فاقترح أحدهما إفساح المجال لمزيد من الهواء. كشفا رأسها. خشيت أن يستعيدها عملاء النسّاك، فشلّها الخوف.   
قالت "إلى أين نذهب؟ وماذا ستفعلان بي؟"  
ردّ أحدهما "هدّئي من رَوعكِ، فلن نفعل شيئاً. لا تدعي ما نتّخذه من احتياطات يقلقكِ. سنأخذكِ إلى سيد عظيم. يريد خادمة لزوجته، وهو علّة هذا الغموض، لكن لن يلحقكِ أذىً".
"آهٍ سادتي، إن كان فيه سعادتي، فلماذا ترغموني. ولمَ الخوف من هربي؟ أنا يتيمة بائسة، أستحقّ الشفقة؛ وكلّ ما أطلبه مجرد مأوى!". 
قال أحدهما "هي على حقّ! فلنُرحها أكثر، فقط نمسك يديها". 
مسكاها وواصلا. ولدى رؤيتها خَنوعاً ساكنة، كلّماها برقّة. علمت منهما أخيراً أن من سيأخذانها إليه هو المركيز دي جرنان، نبيل ثريّ يعيش وحده بالريف.
"وحده؟"
"نعم، فهو زاهد فيلسوف. لا يكاد يرى أحداً".
سألت جوستين "ولمَ هذه الاستحكامات؟"
"السبب، كما سترين، أن زوجة سيّدنا عقلها مفكوك قليلاً. لا تترك حجرتها، ويجب مراقبتها طيلة الوقت. وطبعاً لا يبغي أحد وظيفة كهذه. فلو أخبرناكِ قبلها لتفاديت تقلّد الوظيفة، فاستوجب أن نأخذكِ عنوة". 
بكت جوستين "ماذا! أصبح أسيرة هذه المرأة!"
"طبعاً، وما في هذا! سيمضي كلّه على خير، وسنرعاكِ ـ لا تقلقي". 
"يا ألله!"
"هيا تعالي؛ لا أمر يدوم للأبد. كما أنها وظيفة مضمونة وفيها مال كثير".  
لاح أمامهم منزل كبير. يبدو خاوياً مهجوراً كلّما اقتربوا منه.
أُخذت جوستين إلى المركيز، وقد تمدّد بأريكة واطئة. قربه شابان في زيّ مُخَنّثين، دهنا شعريهما بزيوت عطرة. وجهان جميلان، شاحبان كأنهما مريضان.

موت السيدة فيركـان: الماركيز دو ساد

جمجمة الماركيز دو ساد كما رسمها Dominic Murphy


... قبل أقل من خمسة عشر يوما توصلت برسالة من السيدة فيركان تتوسل فيها إلي كي أزورها، وتبلغني أنها ستسعد كثيرا بلقائي من جديد، فسافرت إليها. لكن أية حالة وجدتها فيها يا إلهي! وأية لذة ذقت طعمها وإياها يا إلهي! فقد ألفيتها على فراش الموت لما وصلتُ، لكن من أين كان لي أن أعرف ذلك يا إلهي!
فقبل أسبوعين فقط كانت قد كتبت إلي رسالة... قبل أسبوعين فقط حدثتني عن ملذاتها الآنية ومباهجها الآتية. ها هي إذن حقيقة مشاريع البشر الفانين. فما أن يوشكوا على الانتهاء من تشييد قصورها وولوج غمرة قطف ملذاتها غير مبالين بهذه اللحظة القدرية، ومتصرفين كما لو كانوا في الحياة خالدين، ما أن يوشكوا على ذلك حتى يأتي الموت القاسي ليقطع حبل وجودهم فيتلاشون في سحاب الخلود الغامض غير واثقين من المصير الذي ينتظرهم.
واسمح لي يا سيدي أن أتوقف لحظة عن حكي مغامراتي لأحدثك عن ذلك الفقدان وأصور لك أية رواقية مرعبة رافقت تلك المرأة إلى القبر.
لم تكن السيدة فيركان شابة آنذاك. فقد كانت كبرت وصارت سيدة ذات اثنين وخمسون عاما. ومع ذلك، فإنها لم تتورع عن القيام بنزهة في منتهى الجنون بالنسبة لامرأة في مثل سنها. وبعد النزهة مباشرة ارتمت في الماء كي تتبرد، فأحست بألم شديد نقلت على إثره إلى منزلها وهي في حالة يرثى لها. في اليوم الموالي ظهر التواء في صدرها، وفي السادس أخبرها الطبيب بأنه لم يبق لها في الحياة سوى أربع وعشرين ساعة تقريبا. إنها لم تبد أي فزع وارتياع أمام ذلك النبأ...
كانت على علم بأنني سأصل في الليلة التي ستموت فيها – حسب قول الطبيب – فأوصت باستقبالي. ولما وصلت وجدتها داخل غرفة مفروشة بمنتهى الأناقة والجمال. كانت ممدودة فوق سرير ما يكاد الرائي ينظر إليه حتى تستيقظ شهوته وتهيج، وكانت أكاليل من الزهور الطبيعية ترفع على نحو عجيب ستائره المزدانة بدوائر ليلكية كبرى، وكانت باقات من القرنفل والياسمين والدرنيات تزين جميع أنحاء بيتها، إذ عمدت إلى انتزاع بتلاتها في حوض أزهار وغمرت بها غرفتها وغطت بها سريرها. وبمجرد ما رأتني مدت إلي يدها وقالت:
اقتربي يا فلورفيل وقبليني وأنا على سريري الزهوري... كم صرت كبيرة وجميلة...، آه يا إلهي! كم أنجحتك الفضيلة يا ابنتي... لقد قالوا لك إني سأموت... وأنا أيضا على علم بذلك... نعم، بعد ساعات قليلة سأموت، وما كنت لأصدق أنني سأحظى برؤيتك من جديد ولو لوقت قصير...

الأحد، 15 فبراير 2015

فكرة حول الروايات: الماركيز دي ساد

عرض وتلخيص: صدقي إسماعيل

تقديم
Marquis de Sade, New York Times
من الآراء المألوفة في تاريخ الفكر أن جميع المشاكل الأساسية قد طرحت منذ البداية ولم يضف إليها شيء جديد بعد ذلك. وهذا ما يمكن أن يقال في تاريخ الرواية، ولا سيما أنه قد أتيح لهذا اللون من الانتاج الثقافي عدد من الرواد الموهوبين استطاعوا أن يثيروا جميع التساؤلات المتعلقة بفن القصة وارتباطها بالحياة.
وعلى الرغم من أن مؤلف هذا الكتاب، وهو الماركيز دي ساد (1740-1814) لم يكن روائياً بالمعنى المألوف، فإن هذه الصفحات التي كتبها عام 1800 ولم تنشر إلا في أواخر أيام حياته، تضم كل ما يمكن أن يبحث في هذا المجال.
وقد اقترن اسم ساد بنزعة العنف في الطبيعة البشرية «السادية» وشاعت هذه الكلمة إثر عدد من المؤلفات منها «جرائم الحب» و«جوستين»، عمد فيها إلى تصوير النزوات الإنسانية عارية من كل طلاء، وكانت موضع نقد واتهام لما تضمنه من صور قاتمة عن جموح الرغبات وانحرافها.. وقد كانت هذه الدراسة عن فن الرواية، محاولة أراد بها «ساد» تبرير مذهبه في فضح الواقع البشري وتعرية الحياة –إذا صح التعبير- وهو ما يذهب إليه معظم كتاب الرواية في العصر الحاضر.
وإذا كان ثمة مبرر للاهتمام بهذه الجذور البعيدة لنشوء الفن الروائي، فهو أن انتصار هذا المذهب –على الرغم من محاذير كثيرة- يدل على ارتباط الحياة الحديثة بالتحرر من جميع مظاهر التستر، والوقوف بجرأة أمام حقيقة الإنسان..

"من أعماق ضريحها.. أسمع أمّي تناديني" (رسائل): الماركيز دو ساد

تقديم وترجمة: تمام تلاوي

مقدمة المترجم
الماركيز دو ساد رسم Tris Darmon

لم تكن حياة الماركيز دو ساد أوفر حظاً من كتاباته، فكما عانت كتاباته من المصادرة والمنع والحرائق، عانت حياته من المصادرة والمنع والحرائق كذلك. ثمانية وعشرون عاماً من عمره قضاها الماركيز دو ساد خلف القضبان على مرحلتين. دامت المرحلة الأولى ثمانية عشر عاماً بين (1772ـ 1790) بعدما استعملت والدة زوجته السيدة دو مونترييل نفوذها وعلاقاتها وحيلها لزجه في سجن لم يبرحه حتى قيام الثورة الفرنسية، وخصوصاً في السنوات الثلاث عشرة الأخيرة منها، فيما تراوحت السنوات الخمس الأولى (1772ـ 1777) بين السجن والإقامة الجبرية والأحكام الغيابية والهرب. أمّا المرحلة الثانية فقد مثلت الأعوام العشر الأخيرة من حياته بين 1804ـ 1814 في مصحّ عقلي في شانتينون بعد أن أدين بالجنون وبكونه يشكل خطورة على المجتمع. وبالمقابل لم تكن حياة الماركيز دي ساد أقل جنوناً وحرية وخرقاً للمحظور من كتاباته. فقد خاض دو ساد، الذي ولد في 2 حزيران 1740 في قصر كوند بباريس، حياة شديدة التمرد ظهرت بوادرها منذ الطفولة عندما أعدّته أمه ليكون رفيق الأمير الصغير في كوند الذي يكبره بأربع سنوات لأجل حسابات خاصة تتعلق بطموحها للحصول على لقب الأميرة، فلم يكن من دو ساد سوى الاستخفاف بهذا الأمير وإهانته لينتهي الأمر بمشاجرة أدت إلى إرسال دو ساد ليعيش مع أقرباء له في بروفينس.

الثلاثاء، 10 فبراير 2015

محاورة كاهن ومحتضر: الماركيز دو ساد

تقديم: عبد القادر الجنابي
ترجمة: سحبان أحمد مروة

"إنّ أكثر الناس تسامحاً لن ينفي حقّ العدالة في قمع الذين يجرؤون على نشر الإلحاد، وأن ينفي حقها حتى في إعدامهم إن لم تتمكن بطريقة أخرى من تخليص المجتمع منهم. إذا كان بإمكان هذه العدالة أن تعاقب من يسيء إلى شخص واحد، فلديها دون شكّ الحق نفسه في معاقبة الذين يسيئون إلى مجتمع بأكمله برفضهم أن ثمّ إله... شخص من هذا النوع يمكن النظر إليه عدوّاً لمجمل الآخرين"




Dolmancé et ses fantômes de luxure-CLOVIS TROUILLE
يعطي هذا المقطع الذي كان ديدرو ودالمبير بين موقّعيه فكرةً عمّا كان عليه القرن الثامن عشر، بالرغم من ادعائه التنويري وأفكاره الليبرالية من تزمت في الآراء وتصلب في المعتقدات حتى لدى فلاسفته الأكثر إدعاءً برفض الدين.
ماركيز دو ساد، نموذج الإباحية الشاملة والإلحاد الذي لا رجوع عنه، هو ابن هذا القرن؛ قرن التنوير المتواطئ.
عتّم على أدبه لمدّة قرنين، كان عليه أن ينتظر ظهور السوريالية حتى يزاح عنه الستار فها هي أعماله تذهل أندريه بروتون وغيّوم ابولينير الذي عرّف دو ساد بأنه "أكثر العقول حريّةً على الإطلاق". على أن الروح الحرّة هذه قضت معظم حياتها في السجن الذي دخلته لأول مرة عام 1763 لتمضي في ظلماته سبعاً وعشرين سنة من الحبس المتقطع، موزّعة على ثلاث أنظمة سياسية واحدى عشر سجناً، انتهت في مصحّ عقلي عند موت الماركيز عام 1814. عالم دو ساد، عالم السجن الذي فضل البقاء فيه على أن يتخلى عن أفكاره ورؤاه. إنه عالم مغلق وصفه بروتون بالحافز الآخر، عند ساد، لفائض الخيال، بعد الحافز الأول؛ العبقرية.
"حوار بين كاهن ومحتضر" نص لم يكتبه دو ساد على شكل مسرح، لكنّه أقرب ما يكون من المسرح. وبالفعل فالكتابة المسرحية عند دو ساد تبرز في نحوها الأمثل عندما لا يكتب المسرح. أتمّ دو ساد هذا النص الفلسفي في تموز (يوليو) 1782 خلال سجنه في فينسين. ولم يظهر له أثر إلا بعد قرن من تاريخه حيث بيع مرات عديدة ووصل أخيراً إلى يد السوريالي موريس هاينه الذي نشره للمرة الأولى عام 1926. وهو يجسد تكثيفاً لفلسفة دو ساد بأسلوبه الشامل الموجه، ويوضح موقف "السادية" إزاء الإجرام والتخريب اللذين تعتبرهما مساهمين ضروريين لتحقيق "الطبيعة" بالاضافة إلى قوى الخلق ويوضح النص ارتباط هذه القيم "السادية" المباشر بالالحاد وبنوع هذا الأخير منها. ويتضح فيه الفرق في نقد الدين ما بين دو ساد ونقّاد عصره وذلك في نفيه الجذري لوجود الله ورفضه "لطيبة الطبيعة": فها هو يسأل وكأنه ضمير الحياة الفعلية: «أنت يا مَن خلقت، فيما يُزعم، كلّ ما هو موجودٌ في هذا الكون؛ أنت يا مَن أجهلُ عنه كلَّ شيء؛ أنت يا مَن لا أعرفه إلاّ بالخبر وبما قاله لي عنك ناسٌ يخطئون كلّ يوم؛ أيّها الكائن العجيب الغريب الذي يسمّي الله، أُعلن بصريح العبارة وعلى رؤوس الأشهاد أنّ ليس لي فيك أدنى اعتقاد لسببٍ لا يضاهيه سببٌ هو أنّي لا أجد ما يقنعني بوجود مُحالٍ لا يبين عنه أيُّ شيء في الدنيا». وربّ سائل يسأل ما القيمة من شتم الله بعد تيقننا من عدم وجوده؟ «إن عبارات التجديف، يجيب دو ساد، ضرورة جوهرية تمدّ يد العون للمخيلة؛ هذه القوّة التي يُشك بها إلى أبعد الحدود الدعاة والاقتصاديون والاديولجيون وكلّ من يسعى إلى عرقلة النشاط الحرّ للفكر والمشاعر الجنسية. المخيلة هي التي تكشف لنا عن حدود الامكانيات وتغذي الرغبات بالأمل في اشباعها. إنّ سعادة الانسان كلّها تكمن في مخيلته ولا يمكنه تهنئة نفسه ما لم يلبّ سائر نزواتها. والتجديف هو الأداة الأولى»

الْوَصِيَّةُ: الْـمَارْكِيـزْ دُو سَادْ

تَرجمةُ وتَذْيِيل: رشيد وحتي

marquis de Sade. Coll Dumoutier. n° 529
أُسْنِدُ تَنْفِيذَ الْبُنُودِ الـمشَارِ إْلَيْهَا أَسْفَلُهُ لِتَقْوَى بُنُوَّتِي، رَاغِبًا فِي أَنْ يَتَصَرَّفَ مَعَهُمْ أَقْرِبَاؤُهُمْ كَمَا كَانُوا سَيَفْعَلُونَ مِثْلِي.

أَوَّلًا: أُعْرِبُ لِلْآنِسَةِ مَارِي كُوْنْسْطُنْسْ رُنِيلْ [Marie-Constance Renelle]، — زَوْجَةِ السَّيِّدِ بَالْطَازَارْ كِينِي [Balthasar Quesnet]، الَّذِي يُعْتَقَدُ أَنَّهُ مَاتَ — بِقَدْرِ مَا تَسْمَحُ لِي بِهِ قُدُرَاتِي الضَّعِيفَةُ، عَنْ بَالِغِ امْتِنَانِي لِلرِّعَايَةِ وَالصَّدَاقَةِ الصَّادِقَةِ الَّتَيْنِ غَمَرَتْنِي بِهِمَا مُنْذُ الْـ 25 أُغُسْطُسْ 1790 حَتَّى يَوْمَ وَفَاتِي، وَهِي مَشَاعِرُ عَبـرتْ عَنْهَا لَيْسَ فَقَطْ بـرقَّةٍ وَنُكْرَانٍ لِذَاتِهَا، بَلْ أَيْضًا بِأَشْجَعِ عَزِيمَةٍ، بِمَا أَنَّهَا تَحْتَ نِظَامِ الْإِرْهَابِ أَنْجَتْنِي مِنَ الـمقْصَلَةِ الثَّوْرِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ مُعَلَّقَةً، كَأَمْرٍ فِي غَاَيَةِ التَّأْكِيدِ، فَوْقَ رَأْسِي، كَمَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ ذَلِكَ. أَهَبُ إِذَنْ وُأُوْصِي، لِلْأَسْبَابِ الـمفَصَّلَةِ أَعْلَاهُ، لِلسَّيِّدَةِ الـمدْعُوَّةِ مَارِي كُوْنْسْطُنْسْ رُنِيلْ، حَرَمِ كِينِي، بِمَبْلَغٍ نَقْدِيٍّ زُهَاؤُهُ 24000 جُنَيْهًا مَسْكُوكًا فِي مَدِينَةِ تُورْ [Tours] وَمُتَدَاوَلًا فِي فَرَنْسَا خِلَالَ فَتـرةِ وَفَاتِي، مُبْتَغِيًا وَقَاصِدًا أَنْ يُجْتـزأَ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ أَكْثَرِ الـممْتَلَكَاتِ الَّتِي أَتـركُهَا تَحَرُّرًا وَبُعْدًا عَنِ النـزاعَاتِ الْعَائِلِيَّةِ، مُحَمِّلًا أَبْنَائِي مَسْؤُولِيَّةَ وَضْعِهِ، فِي أَجَلِ شَهْرٍ بَعْدَ يَوْمِ وَفَاتِي، لَدَى السَّيِّدِ فِينُو [Finot]، الـموَثِّقِ الْعَدْلِيِّ بِشَارُنْطُنْ-سَانْ مُورِيسْ [Cahrenton-Saint-Maurice]، الَّذِي أُعَيِّنُهُ، إِثْرَ هَذَا، مُنَفِّذًا لِوَصِيَّتِي، كَيْ يُسْتَعْمَلَ الْقَدْرُ الـمالِيُّ الـمشَارُ إِلَيْهِ، عَنْ طَرِيقِهِ، بَالطَّرِيقَةِ الْأَسْلَمِ وَالْأَنْضَجِ مِنْ طَرَفِ السَّيِّدَةِ كِينِي بِاعْتِبَارِهِ مَوْرِدًا كَافِيًا لِمْأْكَلِهَا وَرِعَايَتِهَا، مَوْرِدًا يُؤَدَّى لَهَا بِشَكْلٍ مَضْبُوطٍ وَعَلى حِصَصٍ دَوْرِيَّةِ، كُلَّ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، دُونَ الْقُدْرَةِ عَلَى إِسْقَاطِهِ أَوْ حَجْبِهِ عَنْهَا مِنْ طَرَفِ أَيٍّ كَانَ. أَبْتَغِي أَيْضًا أَنْ يُحَوَّلَ مَبْلَغُ هَذَا الرِّيعِ لِشَارْلْ كِينِي [Charles Quesnet]، ابْنِ الـمدْعُوَّةِ السَّيِّدَةِ كِينِي، الَّذِي سَيَصِيـر وِفْقَ نَفْسِ الشُّرُوطِ حَائِزًا لِلْمَجْمُوعِ، فَقَطْ فِي حَالَةِ وَفَاةِ أُمِّهِ الـمحْتـرمَةِ. 
تَبَعًا لِهَذِهِ الْإِرَادَةِ الَّتِي أُعَبـر عَنْهَا هَا هُنَا بِخُصُوصِ الـميـراثِ الَّذِي أَتـركُهُ لِلسَّيِّدَةِ كِينِي، فِي حَالَةٍ غَيـر مُفْتـرضَةٍ سَيُحَاوِلُ فِيهَا أَبْنَائِي حَجْبَهُ أَوِ التـراجُعَ عَنْهُ، أَرْجُوهُمْ أَنْ يَتَذَكَّرُوا أَنَّ الـمدْعُوَّةَ السَّيِّدَةَ كِينِي كَانَتْ قَدْ وُعِدَتْ آنِفًا بِمَبْلَغٍ مُسَاوٍ تَقْرِيبًا عِرْفَانًا بِعِنَايَتِهَا بِوَالِدِهِمْ، وَأَنَّ تَصَرُّفِي هَذَا لَيْسَ إِلَّا تَطَابُقًا مَعَ نَوَايَاهُمُ الْأُوْلَى وَاسْتِبَاقًا لَهَا، أَقُولُ هَذَا دُونَ أَنْ تَتَسَرَّبَ إِلَى ذَاتِي أَيَّةُ شُكُوكٍ قَدْ تـزعِجُهَا وَلَوْ لِلَحْظَةٍ، خُصُوصًا عِنْدَمَا أُفَكِّرُ فِي فَضَائِلِ الْبُنُوَّةِ الَّتِي لَمْ تَكُفَّ أَبَدًا عَنْ طَبْعِهِمْ وَتَمْتِيعِهِمْ بِكُلِّ مَشَاعِرِي الْأَبَوِيَّةِ.

زَهْرَةُ الْقَسْطَلِ: الْمَارْكِيزْ دُو سَادْ

ترجمة: رشيد وحتي 


,Delphine Lebourgeois

زعَمُوا(*) — لَنْ أُؤَكِّدَ ذَلِكَ، رَغْمَ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يُقْنِعُونَنَا — أَنَّ لِزَهْرَةِ الْقَسْطَلِ، إِيْجَابًا، نَفْسَ رَائِحَةِ تِلْكَ النُّطْفَةِ الـمتَكَاثِرَةِ الَّتِي شَاءَتِ الطَّبِيعَةُ أَنْ تَضَعَهَا فِي الرَّجُلِ مِنْ أَجْلِ تَوَالُدِ أَمْثَالِهِ.
ذَاتَ يَوْمِ، كَانَتْ تَتَنـزهُ فَتَاةٌ — تُقَارِبُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ فِي عُمُرِهَا، وَلَمْ تُغَادِرْ قَطُّ بَيْتَ وَالِدَيْهَا — صُحْبَةَ أُمِّهَا، وَكَانَ رَاهِبٌ مِغْنَاجٌ فِي الـممْشَى الـمحَاطِ الْجُنُبَاتِ بِأَشْجَارِ قَسْطَلٍ تَعْبَقُ زُهُورُهَا بـرائِحَةٍ وِفْقَ الْإِحْسَاسِ الـمرِيبِ الَّذِي تَفَضَّلْنَا بِالتَّعْبِيـر عَنْهُ بِكَامِلِ الْحُرِّيَّةِ.
— يَا إِلَهِي، أُمَّاهُ، لِتِلْكَ الرَّائِحَةِ الْفَرِيدَةِ، قَالَتِ الْبِنْتُ لِأُمِّهَا، دُونَ أَنْ تَتَنَبَّهَ لِمَصْدَرِهَا.. أَتَتَشَمَّمِينَ، أُمَّاهُ.. ذِي رَائِحَةٌ أَعْرِفُهَا.
— صَهٍ إِذَنْ، آنِسَتِي، لَا تَقُولِي أَبَدًا أُمُورًا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، أَرْجُوكِ.
— وَلِمَاذَا إِذَنْ، أُمَّاهُ، لَا أَرَى مِنْ ضَيـر فِي أَنْ أَقُولَ لَكِ إِنَّ هَذِهِ الرَّائِحَةَ لَيْسَتْ غَرِيبَةً عَلَيَّ قَطُّ، وَبِكُلِّ تَأْكِيدٍ لَيْسَتْ غَرِيبَةً عَلَيَّ.
— وَلَكِنْ، آنِسَتِي..
— وَلَكِنْ، أُمَّاهُ، أَعْرِفُهَا، قُلْتُ لَكِ؛ سَيِّدِي الرَّاهِبُ، قُلْ لِي إِذَنْ، أَرْجُوكَ، أَيُّ ضَيـر فِي أَنْ أُؤَكِّدَ لِأُمِّي أَنِّي أَعْرِفُ هَذِهِ الرَّائِحَةَ بِالذَّاتِ.

رسائل السجن: الماركيز دي ساد

ترجمة هيئة تحرير موقع الأوان

Man Ray,marquis de Sade
ولد الماركيز دي ساد نبيلاً عظيماً في عام 1740 وتوفّي بائساً فقيراً في مصحّة عقلية في عام 1814. تمتدّ حياته لتشمل العصر الذي حدثت فيه الثورة الفرنسية، وتوفّي في العام ذاته الذي تنازل فيه نابوليون عن الحكم، حين عادت الملكية إلى فرنسا من جديد. يقف دي ساد على تخوم العصور الحديثة، فهو يشرف على الماضي والحاضر، في فترة نوقشت فيها طبيعة الجوهر الإنساني بحرية، كما يحدث في عصرنا الراهن.
تعنى أعمال دي ساد بمناقشة طبيعة الحرية الجنسية، وتعتبر أعماله ذات أهمية خاصّة للنساء بسبب رفضه النظر إلى الجنسانية الأنثوية ضمن علاقتها مع الوظيفة التناسلية، رفضٌ كان مستهجناً في نهاية القرن الثامن عشر، كما هو مستهجن الآن، رغم أنّ وظيفة النساء ككائنات منجبة ما تزال قيد البحث في أيامنا هذه.
حكم على ساد بالسجن لمدّة أربعة عشر عاماً من دون محاكمة قبل أن تحرّره الثورة الفرنسية. في تلك الفترة كتب المئات من الرسائل لزوجته ولغيرها. الرسالة التي بين أيدينا شكوى تتردّد في جميع رسائله من الظلم الذي يزعم أنّه كان ضحيته، خصوصاً من حلقة أقاربه الذين كانوا يحرّضون القضاة والمحاكم على النيل منه.