الأحد، 22 مايو 2016

ايميلي دو تورفيل أو القسوة الأخوية: الماركيز دو ساد



ترجمة رويدة سالم


by Pierre-Yves Le Strat


لا يوجد في الأسرة ما هو أكثر قداسة من شرف أفرادها، لكن هل يعود الفضل في المحافظة على هذا الكنز بكل قيمته الثمينة الممكنة للدور المهين للمضطهدين المهمومين بحمايته إزاء المخلوقات التعيسة التي تشكل تهديداً؟ ألن يكون أكثر عقلانية الوعي بتلك الأهوال التي يعرضون لها ضحيتهم وإدراك حدود ذاك الشرخ الوهمي في أغلب الأحوال الذي يشتكون من أنهم ضحاياه؟ من هو الأكثر ذنباً في المنطق الفتاة الضعيفة المخدوعة أم ذلك الفرد من أسرتها الذي ينصب نفسه منتقماً لشرف العائلة فيتحول إلى جلاد لسيئة الحظ تلك؟
ربما سيقودنا الحدث الذي سنطرحه على قرائنا إلى حل هذه الإشكالية.



 سمع الكونت " دي ليكسوي"، الملازم العام ذو السادسة والخمسين من العمر أثناء عودته من إحدى أراضيه في "البيكاردي" وعند مروره من غابة "الكومبيانيو" حوالي السادسة مساء في أواخر نوفمبر، صراخ امرأة بدا له انه آت من جانب إحدى الطرق القريبة من الحقل الذي كان يعبره. توقف وأمر خادمه الخاص الذي كان يجري بمحاذاة عربته أن يذهب ليستجلي الأمر  فنقل له هذا الأخير أنها فتاة في السادسة أو السابعة عشرة غارقة في دمها دون أن يكون من السهل تبين جراحها وأنها تطلب النجدة. ترجل الكونت حالاً وأسرع بنفسه لرؤية المسكينة. وجد بدوره صعوبة في معرفة من أين تنزف بسبب الظلام لكن أخيراً وانطلاقاً من إجاباتها لاحظ أنها مجروحة في ذراعها في مستوى الوريد من حيث ينزف الدم عادة. قال الكونت بعد أن عالج هذه الإنسانة بكل ما أمكنه من وسائل:
-      آنستي لست هنا في وضعية تسمح لي أن أسألك أسباب آلامك كما أنك لست مطالبة أبداً بإخباري بها. اصعدي أرجوك إلى عربتي ولتكن الإسعافات الأولية التي قدمتها لك الآن سبباً في جعلك تهدئين ومبرراً يجعلني أسعد بتقديمي للمساعدة.
أثناء قوله هذه الكلمات قام السيد "دي ليكسوي" بمساعدة خادمه على وضع تلك الآنسة المسكينة على الكرسي وانطلقوا. حالما رأت تلك الإنسانة المثيرة للاهتمام نفسها في مأمن حتى حاولت التفوه ببعض كلمات الامتنان لكن الكونت رجاها أن لا تتكلم مطلقاً قائلاً لها:
-      غداً آنستي... غدا ستخبرينني كما أرجو بكل ما يخصك لكن اليوم وبكل ما يمنحني إياه السن وفضل أني كنت مفيداً لك من سلطة، أطلب منك بكل إصرار أن لا تفكري إلا بأن تُهدّئي من روعك.
حين وصلوا غطى الكونت محميته بمعطف رجالي لتجنب انكشاف أمرها ثم أمر خادمه بأخذها لغرفة في شقة مريحة في طرف قصره على أن يأتي لزيارتها بعد أن يرى زوجته وابنه اللذين كانا ينتظرانه في ذلك المساء على العشاء. عاد الكونت لرؤية المريضة ومعه جرّاح. عند زيارتهما لتلك الشابة ورغم أنه لم تكن لها لديها أي جراح خطيرة وجدا أنها تعاني اكتئاباً لا يوصف وأن شحوبها يوحي بأنه لم يبق لها إلا بضع لحظات قبل الموت. قالت حول سر ضعفها أنه بسبب الكميات الكبيرة من الدم التي فقدتها يومياً منذ أشهر وحين شرعت في إخبار الكونت بالسبب الخارق للطبيعة لهذا الفقد المهول انهارت فقال الجراح أنه يجب تركها مرتاحة والاكتفاء بأمر تمكينها من أكل جيد ومعاملة ودودة.
قضت فتاتنا الصغيرة التعيسة ليلة مريحة جداً وطوال ستة أيام لم تكن قادرة على إخبار ولي نعمتها بالأحداث التي تعرضت لها لكن في نهاية مساء اليوم السابع وكان أمر اختفائها لا يزال مجهولاً من طرف كل من يقطنون في بيت الكونت كما لم تكن هي ذاتها تعلم نظراً للاحتياطات المتخذة أين هي موجودة، رجت الكونت أن يسمعها ويمنحها الغفران مهما تكن الأخطاء التي ستعترف بها له، فاتخذ الكونت دو ليكسوي مقعداً قبالتها وطمأنها بأنه لن يحرمها العناية التي أولاها لها منذ التقى بها ثم شرعت مغامِرتنا الجميلة في سرد قصة شقائها

قصة الآنسة "دي تورفيل"
   
سيدي أنا ابنة الرئيس "دي تورفيل" الشهير وذو المركز المميز جداً لكي لا يكون مجهولاً من طرفك. منذ سنتين وهو تاريخ مغادرتي للدير لم أترك منزل أبي أبداً. فقدت أمي في سن صغيرة جداً فاهتم هو وحده بتربيتي ويمكنني القول إنه لم يهمل شيئاً ليمنحني كل النعم ووسائل الراحة الخاصة ببنات جنسي. هذا الاهتمام إضافة للمشاريع التي كان أبي يعلنها حول تزويجي بأفضل ما يكون من حظوظ ومن المحتمل أيضاً بسبب تفضيله لي، كل هذا كما قلت لك أثار سريعاً غيرة أخويّ، وأحدهما رئيس منذ ثلاث سنوات ويبلغ ستة وعشرين عاماً والثاني مستشار منذ وقت قليل وسيبلغ قريباً الرابعة والعشرين.
    لم أتخيل أن أكون مكروهة إلى ذلك الحد من طرفهما كما أجد اليوم من المبررات ما يقنعني بذلك. كنت أعيش في الوهم اللذيذ أنهم يبادلونني المشاعر التي أحملها لهم بكل براءة في قلبي بما أني لم أفعل شيئاً لأستحق من طرفهم تلك الكراهية. آه يا الهي كم كنت مخطئة! باستثناء فترة الاعتناء بتربيتي في الدير، تمتعت عند أبي بأكبر قدر ممكن من الحرية. كنت مسئولة مسؤولية تامة على سلوكي فأبي لم يكن يجبرني على شيء ومنذ حوالي ثمانية عشر شهراً مُنِحت حق التجول صباحاً مع خادمتي الخاصة في ساحة "التويلوري" أو على السور المحاذي لمنزلنا وأن أقوم برفقتها ببعض الزيارات لصديقاتي أو قريباتي سيراً على الأقدام أو في سيارة أبي على أن لا يكون ذلك في الساعات التي لا يمكن فيها لشابة صغيرة أن تكون أبداً وحدها وسط لقاءات عامة. هذه الحرية القاتلة وحدها كانت سبب كل عذاباتي. إنها سبب كل مآسيّ لهذا حدثتك عنها، سيدي. يا الهي لو لم أتمتع بها أبداً!

الأربعاء، 20 أبريل 2016

حَوَادِيثُ، حِكَايَاتٌ وَخُرَيْفَاتٌ: الماركيز دو ساد



ترجمة رويدة سالم


الخدعة السعيدة
ثمة كثير من النساء غير الحريصات يتخيلن أنه بمَ أنهن لا يتورطن كثيراً مع عشيق فيمكنهن دون إهانة أزواجهن بأن يسمحن لأنفسهن على الأقل بعلاقة تودّد مع رجل، وينتج غالباً عن هذا الأسلوب في التعاطي مع الأشياء نتائج خطيرة كأن سقوطهن كان مكتملاً. ما حدث للماركيزة "قويساك"، وهي امرأة من الطبقة الأرستقراطية في نيم من مقاطعة آلون غدوك، دليل على ما نقدمه هنا كقاعدة.
اعتقدت السيدة "دو قويساك"،الحمقاء المتهورة والمرحة شديدة الفطنة والكياسة، أن بعض الرسائل العاطفية التي تتبادلها مع البارون "دوميلاس" لن ينجم عنها أيّ نتيجة، أولاً لأنه لا أحد سيعلم بها، وثانياً لأنه في حالة ما إن اكتُشف أمرها وبمَ أنها قادرة على إثبات براءتها لزوجها فلن تحتاج لطلب الرحمة منه، لكنها أخطأت، فقد تسرب الشكّ إلى السيد "قويساك" الغيور جداً فشكّ في علاقة تودّد واستجوب خادمة زوجته وأخذ منها الرسالة ومع انه لم يجد في البداية ما يبرر مخاوفه إلا أنه كان فيها ما يكفي لتغذية شكوكه.
وفي حالته القاسية من الشكّ، أخذ معه مسدساً وكأس ليمون، ودخل حانقاً إلى غرفة زوجته. صاح في وجهها غاضباً:

-      لقد خنتني، سيدتي. اقرئي هذه الرسالة التي بينت لي ذلك. لم يعد الوقت مناسباً للتلاعب بي، وها إني أترك لك أن تختاري طريقة موتك.
دافعت الماركيزة عن نفسها وأقسمت لزوجها أنه مخطئ وأنها يمكن حقاً أن تكون مذنبة بسبب طيشها لكنها بكل تأكيد لم تقم بأي جرم.
أجابها زوجها حانقاً:
-      لا تثقلي عليّ أكثر أيتها الخائنة. لا تثقلي عليّ أكثر واختاري بسرعة موتك وإلا فسيحرمك هذا السلاح للتوّ من الحياة.
قررت السيدة "قويساك" المسكينة المرتعبة أن تختار السم وتناولت الكأس وبدأت شربها.
قاطعها زوجها حين شربت كمية لا بأس بها من الكأس قائلاً:
-      توقفي. فلن تموتي وحدك. بمَ أنك تكرهينني وقمت بخيانتي فماذا عليّ أن أصبح في نظر العالم؟
وبينما يقول هذا الكلام تناول الكأس وشرب منها ما بقي فيها، فصاحت السيدة "قويساك":
-      آه يا سيدي في هذه الحالة الرهيبة التي وضعتَ كلاً منا فيها، فلا تحرمني من رؤية كاهن الاعتراف وأن أتمكن في الوقت نفسه من تقبيل أبي وأمي للمرة الأخيرة.
أرسل الماركيز مباشرة في طلب الأشخاص الذين أرادتهم السيدة سيئة الحظ.
ارتمت في حضن الأبوين اللذين منحاها الحياة واحتجت من جديد مؤكدة أنها غير مذنبة، لكن أي لوم قد يوجه لزوج يظنّ أنه قد خانته زوجته ولا يعاقبها بكلّ هذه القسوة إلا ويخضع هو بدوره للمصير ذاته؟
لم يعد ثمة مجال إلا لليأس وعلا البكاء من كل اتجاه.
عندما جاء الكاهن قالت الماركيزة :
-      في هذه اللحظة القاسية من حياتي أريد أن أعترف علانيةً لمواساة والدي ولتبقى ذكرايَ طاهرة.
ثم اتهمت نفسها بصوت عال بكل ما أملاه عليها ضميرها من آثام أتتها منذ ولدت.
نهض الزوج، منتبهاً لما تقوله زوجته فلم يسمعها تتكلم قط عن البارون "دومولاس" مع ثقته أنها في مثل هذا الظرف لن تلجأ لإخفاء شيء، وصاح معانقاً حماه وحماته وهو في قمة السعادة:
-      أبويَّ العزيزين هوّنا على نفسيكما ولتسامحني ابنتكما لما سببته لها من رعب لكنها سببت لي ما يكفي من القلق فسمحت لنفسي أن أسبب لها بعضاً منه. لا يوجد بالشراب الذي تناوله كلانا سمّ قط، فلتطمئن هي ولتطمئنوا جميعكم ولتتعلم هي على الأقل أنه لا يجب على المرأة الشريفة حقاً أن ترتكب شراً، بل ألاّ تقوم أيضاً بما قد يُسبب أدني شك.
عانت الماركيزة عذابات الدنيا لتعود لحالتها الطبيعية. فقد ظنت أنها تسممت حقاً حتى أن قوة خيالها جعلتها تحسّ بكلّ ما قد يسببه موت مشابه من جزع. قامت مرتجفة وضمت زوجها وحلّ الفرح محل الألم.
ووعدت في صدقٍ السيدة الشابة، التي قوَّم المشهد الفظيع سلوكها إلى أبعد حد، أن تتحاشى مستقبلاً أبسط مظهر من مظاهر الأخطاء، واحترمت وعدها وعاشت مع زوجها أكثر من 30 سنة فلم يجد مبرراً أن يوجه إليها أدنى تأنيب.
****

الأربعاء، 13 أبريل 2016

السفاح والكتابة عند ساد: بياترس ديديه



ترجمة: حسين عجة



By Takato YAMAMOTO
لا شك أنّ جريمة السفاح، من بين كلّ جرائم العشق في أعمال ساد الروائية، تحتلّ مكانة مميزة.  فالعقدة التراجيدية "لدورجفل" (Dorgeville) تكشف عن نفسها عبر الجملة الوحيدة التالية: «حسناً، يا "دورجفل"، لتقر أنّك تتعرّف على أختك المجرمة من خلال زوجتك السيئة الحظ هذه»! أمّا في رواية "فلورفيل" (Florville) و"كورفال" (Corval)، فيطال الموضوع ذروة تعقيده؛ كذلك نشعر ضمن أي فرح يسمح الروائي-الخالق (romancier -démiurge)، قبيل الخاتمة، بالكشف عن تعدّديّة العلاقات والجرائم المشدودة في عقدة واحدة: «لتعترف بي، يا "سنفال" (Senneval)، لتعترف في آن معاً بأختك، تلك التي أغوتك في مدينة "نانسي" (Nancy)، قاتلة ولدك، وزوجة والدك، والكائن الشنيع الذي قاد أمك إلى المشنقة».  على العكس من ذلك، تمثل رواية "يوجيني دو فرانفل" (Eugenie de Franval)  الحدّ القصي من البساطة؛ غير أنّ تلك الوحدة ليست فاعلة إلاّ من حول انفعال واحد (seule passion)، متطرّف، وتم إعداده منذ وقت بعيد لكي يكون ناضجاً: عشق الأب لابنته الفتية تماماً.
في نفس المرحلة، يؤلف ساد "مائة وعشرون يوماً" (cent vingt journées) حيث يتخيل جماعة من الخُلعاء المتحدين عبر شبكة علاقات سفاحية (incestueux): «منذ أكثر من ستة أعوام كان هؤلاء الفساق الأربعة المُتطابقون بثرائهم وذوقهم، يتخيّلون تقوية علائقهم أكثر عن طريق التحالفات التي يحتلُّ فيها الفجور موقعاً أكبر من أيّ دافع آخر، أي الدوافع التي تُؤسس عليها عادة العلاقات». وفي رواية "فلسفة الصالون الصغير" (la philosophie dans le boudoir)، تنفجر "يوجيني": «ها أنا إذاً سفاحة، خائنة لزوجها، وممحونة في آن معاً»!
إلى جانب هذه الممارسة السفاحية بين الشخوص الأكثر دلالة في العالم الساديّ، تُضاف، كبطانة للفعل، نظرية (une théorie). في "يوجيني فرانفل"، يستدعي الأب التقاليد القديمة، ولأنّ محاوره هو بالدقة قسّ، لذا يشير إلى الأنجيل وقصة لوط (l’histoire de Loth). وفي "لتبذلوا، أيها الفرنسيون جهداً أكبر، إذا ما أردتم أن تكونوا جمهوريين" (Français encore un effort si vous voulez être républicains)، يشرعُ ساد بتبرير سياسة السفاح (politique de l’inceste): «هل أنّ السفاح خطير؟ كلاّ، لا، أبداً، إنه يوسع العلاقات العائلية وبالتالي يجعل حب المواطنين للوطن أكثر فاعلية». بعد ذلك، يُطرح ما لا حصر له من الأمثلة، التي يلجأ إليها ساد عبر مناقبية تاريخية وجغرافية، لكي ينتهي بالقول بأنّ السفاح نتيجة مباشرة للـ "التجمع النسويّ" الذي ينبغي تأسيسه في الجمهورية الحقيقية.

السبت، 30 يناير 2016

دستويفسكي ضدّ الماركيز دو ساد: جون آتاريان



ترجمة: أسماء القناص


Fedor Dostoievski by Séverine Scaglia
كان الماركيز دي ساد (1740-1814)، الفاجر، المُنحرف والإباحي، شخصيةً مِحورية في الفكر الغربي. قدّمت رواياته مثل: "جوستين" (1791)، "الفلسفة في المخْدَع" (1795)، "جولييت" (1797) ولأول مرّة الفلسفة العَدمية مُوضحةً كُل ما يترتب عليها من شُرور.
لقد تدفقت فلسفة ساد من تضخّم الأنا، مما دفعهُ إلى التطّرف الشديد في مُحاربة الإيمان. إن عدم وجود الله يجعل من الكون مُجرد طبيعة مادية بحتة، آلية تشغيل ذاتي «الحركة الدائبة للمادة تُفسر كل شيء». إن البشر مُجرد آلاتٍ تتملصُ من المسؤولية الأخلاقية، وطالما لا توجد حياةٌ أخرى، فإن سلوككَ غيرُ مُهم، سواء كُنت مُنحرفاً، أو فاسِداً. تُؤكد الأعرافُ المحلية أن الأخلاق نِسبية، وتختلِف باختلاف الثقافة، والجغرافيا، وبالتالي مُبتدعة. الطبيعة وحدها هي دليلُنا الأخلاقي، ومُذْ تبنّت الطبيعة مَسألة خلِق حيوات جديدة من أشكالِ الحياة الميتة، أصبحتْ أهميةُ البشر لا تعلُو عنِ الحشرات، جميعُهم سواسية. استخدمَتْ الطبيعة الجرِيمة، التدمير، والموت ضرورةً ومُتعةً لها، لذلك يكونُ القتلُ أمراً طيّباً، والسفّاح هو أسمى صورة من صور البشرية.
لقد وُلد الفردُ وحدهُ، وهو المُهم فقط، لا وجود إلا لدوافِعه الأنانية، وبدون أية التزامات لأحد. كُل فرد مُحرّض ضِد الآخرين «أُمتّع نفسي بغض النظر عنِ الحساب». الفردُ يميلُ بطبيعته إلى الهيمنة، وإلحاق الألم بالآخرين، وهذا ما يُمتعه، لذلك الناسُ العادية ليست إلاَّ كائنات نَفعية، لُعبةٌ بيد الأثرياء، الأقوياء، والإلهيون. أولئكَ الذين لا يمنحُون الحُب على الإطلاق. يكون الجمالُ، والبراءة، مُلهماً للقسوة، والتصرفاتِ الشيطانية. منذُ جعلت المادية المُتعة تتناسبُ طردياً مع الإثارة، بقدر ما كُنتَ قاسياً، بقدر ما تستمتع. لذلك فإنّ الأنانية، التطرّف، والقسوة هي المسارُ الصحيح.
إذا لم يكُن هناك إله، جحيم، لا حق، ولا باطل، وبدون أية مسؤولية أخلاقية، فلا وجود لمعنى يتجاوزُ حدود المُتعة، ثم يكون الوُجود بأكملِه، بلا أية معنى أو قيمة. لا شيء مما تفعلهُ يبدو مُهماً، والآخرون يفقدون قيمتهم، ما تفعله معهم، ولهم لا يعني أية شيء. إن العدمية تُحرّرنا، وعندها يُصبحُ كل شيء مسموحاً.
سوّغ ساد باستمرار الأنشِطة الجنسية الأكثر انحطاطاً، وتفسخاً، وقام بتبرير كُل جريمة تتضمن القتل، وأكلَ لُحوم البشر. لقد قاد الضجر، والنهم ساد لأبشع الجرائم التي بلغت ذروتها في المجازِر، حتى أن جرائمهُ الغارقة في الشر جعلتْ مِن التوبةِ، والاستقامة أمراً مُستحيلاً. وبسبب عجزِ الواقع عن إشباع رغباته اللامحدودة، الرغباتُ المتلهفة نحو الدمار الشامل، أصبح الإحباط، والسخط حليفاً له.
بما أن دينامية الشر، ووجهات نظر ساد في القسوة، والقتل تُشير إلى أن العَدمية في نهاية المطاف شيطانية لا أكثر، ولا تحتوي إلا على تدنيس للمُقدسات، إدانات مسعُورة لله، والمسيحية، والمُمارسات الشيطانية بما فيها السوادُ الذي يَطغى روايات ساد، حيثُ المركز الوحيد هو التمرّد، والسعي للتفوق عن طريق الشر، والسيادة.
أثّر ساد بشكل واضِحْ على الكُتّاب الرومانسيين، والمنحلين أمثال: تشارلز بودلير، جوستاف فلوبير، ألغرنون سوينبرن وراشيلد. لقد أخبرُهم ساد ما أرادوا سماعه، وسَعتْ فلسفتهُ لتحريرهم، وحثّهم على الانغماس، والتعبير عن هوسهم في القسوة، والانحراف، لذلك ساهَم ساد بشكل جلي في تفشّي هذا المرض في الفكر، والثقافة الغربيين.