الأحد، 15 فبراير 2015

فكرة حول الروايات: الماركيز دي ساد

عرض وتلخيص: صدقي إسماعيل

تقديم
Marquis de Sade, New York Times
من الآراء المألوفة في تاريخ الفكر أن جميع المشاكل الأساسية قد طرحت منذ البداية ولم يضف إليها شيء جديد بعد ذلك. وهذا ما يمكن أن يقال في تاريخ الرواية، ولا سيما أنه قد أتيح لهذا اللون من الانتاج الثقافي عدد من الرواد الموهوبين استطاعوا أن يثيروا جميع التساؤلات المتعلقة بفن القصة وارتباطها بالحياة.
وعلى الرغم من أن مؤلف هذا الكتاب، وهو الماركيز دي ساد (1740-1814) لم يكن روائياً بالمعنى المألوف، فإن هذه الصفحات التي كتبها عام 1800 ولم تنشر إلا في أواخر أيام حياته، تضم كل ما يمكن أن يبحث في هذا المجال.
وقد اقترن اسم ساد بنزعة العنف في الطبيعة البشرية «السادية» وشاعت هذه الكلمة إثر عدد من المؤلفات منها «جرائم الحب» و«جوستين»، عمد فيها إلى تصوير النزوات الإنسانية عارية من كل طلاء، وكانت موضع نقد واتهام لما تضمنه من صور قاتمة عن جموح الرغبات وانحرافها.. وقد كانت هذه الدراسة عن فن الرواية، محاولة أراد بها «ساد» تبرير مذهبه في فضح الواقع البشري وتعرية الحياة –إذا صح التعبير- وهو ما يذهب إليه معظم كتاب الرواية في العصر الحاضر.
وإذا كان ثمة مبرر للاهتمام بهذه الجذور البعيدة لنشوء الفن الروائي، فهو أن انتصار هذا المذهب –على الرغم من محاذير كثيرة- يدل على ارتباط الحياة الحديثة بالتحرر من جميع مظاهر التستر، والوقوف بجرأة أمام حقيقة الإنسان..

*****
يطلق اسم الرواية عادةة على المؤلفات التي تسرد المغامرات الفريدة في حياة البشر، وبذلك تبدو أقرب إلى الخيال. فلماذا أطلق عليها هذا الاسم؟ وأي الشعوب يعتبر مصدراً لهذا النوع من الانتاج القصصي؟ وما هي القواعد التي ينبغي اتباعها لكي نتوصل إلى الكمال في الفن الروائي؟
تلك هي المسائل الرئيسية الثلاث التي نستطيع في معالجتها أن نتبين ماهي الرواية وماهي علاقتها بالحياة الإنسانية.
إن المعنى اللغوي لهذه الكلمة «Roman» يشير إلى لغة تحمل هذا الاسم، كانت مزيجاً من المصطلحات السلتية واللاتينية. وبهذه اللغة انتشرت بعض الحكايات العاطفية أو مغامرات الحب، ومن ثم كانت كلمة رومانس (Romance) تدل على المعنى ذاته. وليس هناك تفسير آخر للفظة، وإن كان هذا المعنى هو أبسط من أن يحدد الملامح الحقيقية لفن الرواية.
غير أننا نستطيع أن نلتمس هذه الملامح في نشأتها التاريخية. والرأي السائد أن الرواية ظهرت لأول مرة عند الاغريق، ثم نقلها العرب إلى الإسبان في الأندلس، وانتشرت بعد ذلك في أنحاء أوروبا عن طريق الشعراء الجوالين (Troubdours) الذي علموا أوائل الشعراء والكتاب في العصور الحديثة فن السرد الروائي، ومن ثم كانت أولى المحاولات الأدبية في هذا المضمار، لدى كتاب قصص الفروسية.
ولكن هذا الرأي الدارج، على الرغم من أهميته التاريخية، لا يقدم شرحاً واضحاً لظهور الرواية؛ لأن انتقال الحكايات بين الشعوب يقتضي سهولة الاستفسار، وهو ما لم يكن متوفراً في الأزمنة القديمة؛ كما أنه ليس من السهل أن نقر بأن ما يروى في بيئة ما، يمكن أن يُقبل في بيئة أخرى؛ ذلك لأن اختلاف المشاعر والأذواق ووجهات النظر، يجعل لكل شعب عقلية خاصة تفرض أشكالاً معينة من ميادين الخيال. ولذا فإن من الأصح أن نعتبر القصص والروايات من ثمار البيئة المحلية؛ إن لكلّ شعب تجاربه وعواطفه وخياله، وله حكاياته أيضاً...
وإذا تأملنا تاريخ الشعوب من خلال هذه النظرة، فإننا نجد أن الشكل الروائي لهذه الحكايات قد ظهر أول الأمر في البلاد التي كانت تعترف بالآلهة. وهو اعتراف يدلّ على نزعة دفينة إلى نسج الخيالات وانشاء الأساطير. وقد كانت مصر القديمة ينبوعاً لهذا اللون من الحياة الثقافية؛ لأنها كانت مهداً لأولى العبادات. غير أن الرواية لم تصدر عن عبادة الآلهة، بل أطلت على الخيال البشري منذ أن بدأ الناس يرتابون بتلك الكائنات العلوية الخالدة التي تمثل الآلهة. وهي ريبة طبيعية. لأن الخلود الذي كان يضيفه الإنسان على الآلهة، هو شهوة بشرية أيضاً. وقد كان القدامى يجدُون آلهتهم في كائنات حية تتصرف كما يتصرف البشر وتتكلم مثلهم؛ ولم يلبث أشخاص القصص والروايات أن أصبحوا أبناء للآلهة، ثمّ تحولوا إلى أبطال من البشر ينجزون الأعمال الخارقة. غير أن فكرة الأسطورة لم تبرح خيال الناس، فحين يكون ثمة مجال للرواية كانت تحوم الأطياف العجيبة التي يعبر بها الخيال عن نزعته إلى ما وراء الواقع. إن هرقل هو قائد عظيم حارب أعداءه في شجاعة وانتصر عليهم. هذا هو هرقل البطل في التاريخ. أما هرقل الروايات فهو إله يقهر العمالقة ويقضي على المردة. إن سرعة التصديق هي أساس الرواية «القديمة»، ولكنه تصديق معقول لأنه يستجيب للكثير من النزعات الإنسانية العميقة، كما أن جميع الأشخاص الذين عمدهم الخيال هم في الأصل أبطال لعبوا دوراً في حياة شعوبهم.
ومهما يكن في الحكاية الأسطورية من جموح في الخيال، فإن أشخاصها جميعاً كانوا يحملون طابع الحياة البشرية؛ حتى الآلهة مثلاً كانوا ينفعلون ويتحدثون على غرار الناس. وليس في ذلك ما يدعو إلى الدهشة؛ لأن سرد الروايات كان يهدف منذ البداية إمّا إلى إثارة الخوف في نفوس الناس، وإمّا إلى إغوائهم والتأثير في عواطفهم، وهما في الحقيقة غاية القصص التاريخي نفسه؛ وبذلك يقول العالم هويه (Huet): «منذ القديم كانوا يعتبرون الرواية مجموعة من الحكايات التاريخية، ثم استخدمت هذه الكلمة للدلالة على الأقاصيص الخيالية، وهو يشير إلى أن الرواية ترجع في نشأتها إلى الواقع البشري..»
وعلى هذا النحو نرى أن الرواية هي ذات طابع قومي في كل حين. وتلك احدى صفاتها الأساسية خلال جميع العصور. ففي كلّ أمة كانت الروايات تسرد باللغة الأصلية، والأسلوب القومي، وتصف العادات والأخلاق وتعبر عن الآراء والنزعات في هذه الأمة.
ولكن لماذا كانت الروايات؟ ماهي الحوافز الداخلية التي أملتها على الشعوب؟
في طبيعة الإنسان أنه ضعيف من ناحيتين رئيسيتين: الأولى أنه فريسة للخوف. إن وجوده مثقل بالرهبة، على الرغم من كبريائه الصارخة. إنه يرهب الألم والقدر والموت. ولكنه مع ذلك يتطلع إلى الخلاص. وسواء كان هذا التطلع رغبة في إبعاد الخطر أو أملاً في المستقبل فإنه قد دفع الإنسان منذ البداية إلى الابتهال أو العبادة، أو الرجاء. وذلك هو أول بواعث القصة. ولما كانت المخاوف مقترنة بالارتباك والانفعال، فإن الروايات التي تعبر عنها كانت مزدحمة بالأكاذيب والمغامرات الخارقة. [وهو ما يغلب على الكتاب المبتدئين الذين لا يرون الواقع الإنساني كما هو، لأنهم يخافون من الحقيقة]
أما الناحية الثانية من الضعف البشري فهي الحب. فحيث وجد الإنسان كان قلبه يتفتح لهذه العاطفة الفذة، وكان ينسج الأقاصيص الرقيقة –أو المثيرة- لكي يعبر عن انفعالات الحب نفسه.. وعلى الرغم من أن الحب هو أكثر ارتباطاً بواقع الحياة اليومية فإن نزوات الخيال كانت تفتح أمامه آفاقا رحيبة من الصور الشعرية التي تزيد العاطفة ارهافاً وتملأ الشعور عذوبة. غير أن روايات الحب كانت واقعية قبل كلّ شيء، لأن وصف الناس والأشياء والمواقف الصغيرة هو المحور الأول في تجربة الحب.
وليس من الصعب أن نتبين هذين الينبوعين في جميع الأعمال الروائية المعروفة منذ القديم، وحسبنا أن نذكر أن روايات اسدوراس (Esdoras)  عن حصار بابل –وهي أقدم أشكال الرواية- تقدم لنا حشداً لا نهاية له من الصور المخيفة. وكلها تصدر عن الخشية والخوف. كما أن أولى الروايات التي تصور الحياة في وقائعها اليومية، يمكن أن تعتبر قصصاً غرامية لغلبة الحب على أبطالها. وأول روائي تحدث عن القدامى في هذا المجال هو أرستيد الملطي (Aristide de Milet) ولكن مؤلفاته ضاعت جميعاً. وقد عرف انطوان ديوجين (Antoine Diogéne) معاصر الاسكندر، برواية رشيقة الأسلوب تدور حول غراميات دينياس (Dinias) وديرسيليس (Dercillis) ثم تلتها رواية هليودور (Héliodore)، وهو كاتب شعري العبارة، عن حب تياجين (Theagéne) وشاريكليه (Chariclée) ورواية كاتب آخر يدعى لونغوس (Longus) عن غرام دافنييه (Daphnis) وكلوه (Chloe)، وغيرهما.
وقد كان الرومان أميل إلى النقد والمكر، فلم يعنوا بروايات الحب، بل تركوا قصصاً هجائية ساخرة تعبر عن ضعف الإنسان وضآلته. وبذلك استقوا من الينبوع الأول للرواية.
وكان الغاليون (Gaulois) أكثر خضوعاً للخشية والحب، ومن ثم فقد لجؤوا إلى الروايات الغنائية، ويذكر لوكين (Lucain) أنهم كانوا ينظمون الأشعار وينشدونها ليذكروا الأعمال العظيمة التي كان يقوم بها الأبطال في تحديهم للموت. وبهذه الروح كتبت معظم الروايات في العصور التالية: الدائرة المستديرة، تريستان وايزدلت، الفارس لانسلوت، وغيرها. وهي تحفل بسرد المغامرات الفظة التي تبلغ حدّ التوحش لأنها ثمرة الرهبة.
ثم ظهر الشعراء الجوالون؛ فكانوا بداية انطلاق جديدة في روايات الحب. وعلى الرغم من أنهم كانوا يغنون الشعر، فإنهم تركوا روايات نثرية ساحرة تضعهم في مصاف كبار الروائيين. والغالب أن هؤلاء الشعراء قد نقلوا فن الرواية إلى إيطاليا فكانت أولى مراحل الانتاج في هذا الفن كما مثلها دانتي (Dante) وبوكاشيو (Boccace) وتاسوني (Tassoni)، حتى بترارك (Petrarque) نفسه لم ينج من هذا التأثير. والمعروف أن معظم قصص بوكاشيو هي حكايات شعبية نقلها الشعراء الجوالون. [من المفيد أن نذكر أن الكثير من هذه القصص قد ورد على نحو أو آخر في «ألف ليلة وليلة».]
ثم رفدت فن الرواية موجة جديدة تتمثل في الأساليب المتقنة التي نقلها العرب إلى الاسبان. وقد استطاع العرب أن يجمعوا الكثير من الأقاصيص الاغريقية ويؤلفوا روايات شيقة. وقد قلدهم الإسبان الذين أثروا بدورهم في كتاب الرواية في جميع أنحاء أوروبا. وكان في طليعة هؤلاء، دورفي (Durfé) الذي كتب رواية استريه (Astreé) عن حياة الرعاة؛ فكانت أجمل ما يقرأ حتى القرن الثاني عشر. غير أن مريديه أساءوا تقليده، فاستبدلوا الرعاة بالملوك، واضطرهم ذلك إلى المبالغة في وصف الواقع. ففي رواية سكوديري (Scudéri) مثلاً عن سينا (Cinna) لا نجد هذا الأمير العادي كما وصفه هيرودوت في العصور السالفة؛ بل نجد شخصاً مجنوناً، على الرغم من مهابته الكلية، عاشقاً لا يعرف إلا البكاء من الصباح إلى المساء؛ وقد أصبحت هذه المبالغة من التقاليد المألوفة في الرواية خلال عصور بعيدة..
ولم يتح للرواية أن تتحرر من هذا الانحراف في طبيعتها إلا بظهور سيرفانتس (Cervantés) الذي رسم في روايته الخالدة «دون كيشوت» أغرب شخصية يمكن أن توجد في خيال كاتب روائي، ولكنها مع ذلك أقرب نموذج إلى الحياة اليومية. ورواية دون كيشوت هي أول أثر فني كامل في هذا الميدان. إنها تقدم الفن الرائع والتسلية الممتعة، والثقافة الواسعة في آن واحد. وقد قال عنها القديس ايفرموند (Evremond)..: «الكتاب الوحيد الذي أعدت قراءته دون سأم وأردت أن أكون مؤلفاً له..».
وقد انطوت محاولات الكتاب بعد ذلك على جميع القضايا الأساسية التي يمكن أن تثار في طبيعة فن الرواية وعلاقته بالحياة الإنسانية. ففي رواية مغامرات تيليماك (Télèmaque) أثار فينيلون (Fénélon) مشكلة التوجيه في القصة. لقد استخدم أسلوباً شعرياً جميلاً، ولكنه بعيد عن الواقع الحي، لأنه أراد أن يقدم للحكام درساً في الأخلاق يعرف أنهم لن يتبعوه. واندثرت صفحاته في ركام العصر.
وحاول فولتير اقحام الفلسفة في الرواية؛ وهي محاولة جريئة ولكنها لم تقدم فناً بل فلسفة. ولولا موهبة فولتير في فن الكتابة لما كانت كانديد (Candide) وزاديغ (Zadig) من روائع الكتب النثرية. وقد تجاوز روسو هذه المشكلة نفسها [استخدم الرواية من أجل الفلسفة] بأسلوبه العاطفي الحار؛ لقد ترك صفحات لا مثيل لها في روعة العبارة وقوة التأثير. وكان بذلك نموذجاً فذاً للكاتب الذي تجري الفلسفة في روحه..
غير أن الرواية بمعناها الصحيح لم تجد أرضاً صلبة إلا حين تناولت الواقع في تفاصيله اليومية الصغيرة. وقد كانت خلجات القلب البشري أكثر هذه التفاصيل إرهاقاً وأشدها إغراءاً للكتاب. وذلك ما اهتدى إليه الروائيون الأنكليز وفي طليعتهم ريشاردسون (Richardson) وفيلدنغ (Fielding)؛ إن مؤلفات هذين الكاتبين هي درس بليغ لكل من يحاول فهم الفن الروائي على حقيقته. في هذا الدرس نتبين ضرورة التحليل العميق للأهواء البشرية التي تستهلك وجودنا جميعاً ولا يقتصر هذا التحليل على وصف الرغبات والنزوات كما يحياها الناس في الواقع، بل إنه يكشف أيضاً عما يمكن أن تؤول إليه حين تسوقها الرذيلة في طريقها العاصفة. وها هنا تكمن النقطة الأساسية في الرواية التحليلية. إن المحور الذي تدور حوله هو ما يمكن أن يكون عليه الإنسان مثلما يعنيها ما هو عليه في الواقع. إن الروائي الحق ينطلق إلى أبعد ما يستطيع في تصوير المصائر البشرية. وبهذا كانت تجربة ريشاردسون وفيلدنغ ميلاداً حقيقياً لفن الرواية. إننا نتعلم منها أنه لا أهمية لانتصار الفضيلة مادام الناس يخشون الصراحة، ويحجمون عن تعرية نفوسهم خوفاً من أن يذرفوا الدموع. إن الفضيلة أيضاً هي الجرأة على رؤية الحقيقة التي يعانيها الجميع.
على هذا النحو تصبح الرواية فناً بكلّ معنى الكلمة، مرآة أمينة للقلب الانساني، لا بد من أن تعكس على صفحتها كل ما فيه من صدوع وجراح. بهذه الروح كتبت رواية مانون ليسكو (Manon Lescaut) والمعروف أن مؤلفها الأب بريفو (Prévôt) قد ترجم ريشاردسون إلى الفرنسية وكان من دعاة الواقعية الأنكليزية في الرواية.
قبل أن ننتقل إلى المشكلة الثالثة في بحثنا: ماهي قواعد الفن الروائي؟ نقف أمام تساؤل طالما أثار الباحثين هو: لماذا الرواية؟ ما الذي يعنيه هذا النوع من الانتاج الأدبي؟ وما جدواه؟
مثل هذا السؤال لا يصدر إلا عن المرائين الذين هم أول من يعرفون بأنه تساؤل مضحك. تقولون ما فائدة الرواية وهي التي تضعكم أمام نفوسكم، وترسم صورة أمينة لعاداتكم وتقاليدكم وتفضح كلّ ما تتذرعون به من كبرياء والغرور لكي تخفوا حقيقتكم، من دون ذلك تعيشون وراء الأقنعة الزائفة، خائفين من الأغوار السحيقة المبهمة التي تمثلها في أعماقكم كوامن النزوات.
ولكي تكتب الرواية على النحو الذي يجعلها صورة الحياة، لا بد من أن نعرف الحياة جيداً، أن نجمع كل ما نستطيع من الأسرار والحقائق عن وجود الإنسان في جميع مواقفه وطباعه. ومن ثم فإن هناك مصدرين أوليين يستقي منهما الكاتب مادة فنه هما الشقاء والسفر. إن الآلام تكشف عن حقيقة الإنسان، وكذلك تفعل الأسفار. ولا يكفي أن نعرف الناس كما نراهم، بل نتبادل التجارب معهم، يجب أن يخدعونا أحياناً لكي نستطيع فهمهم، وأن نصمت كثيراً لكي نصغي إليهم.
إن الروائي هو ابن الطبيعة الوفي، ورسالته أن يصف العالم كما هو ويمتد بخياله إلى جميع الآفاق التي يمكن أن ترتادها تجربة الإنسان. ومن أجل هذا فهو يحب الحياة ويحرص على كل نبضة في أشيائها وأحيائها. إن الأحمق يقطف الوردة وينثر أوراقها، أمّا العبقري فإنه يتنسم عبيرها ويصورها وهذا ما يفعل الروائي.
غير أن تصوير الحياة يفرض على الروائي أن يحمل الوقائع ويضفي عليها ألواناً زاهية، لكي يستهوي الآخرين؛ وهي من خصائص الفن المألوفة. ولكن حذار من الكذب. إن قوة الواقع والصدق في تصويره، هما أجمل ما فيه؛ ينبغي أن تكون الرواية كالحياة، خالية من كل ما يمكن الاستغناء عنه.
ولكي يكون التعبير الروائي في حرارة الواقع يجب أن يكون في بساطة الحياة. ولكن هذا لا يعني أن يتوقف الخيال. فالرواية هي فن مبدع، وعلى الرغم من أنها مشدودة إلى الواقع، فهي ملزمة بأن تكون جميلة، بأن تبهر وتمتع. إن ما يقرأ في سأم هو أثر رديء؛ والخيال وحده يجعل الأشياء المألوفة مصدراً للغبطة. ولكن ينبغي أن نفرق بين الخيال والمستحيل. فالرواية الجيدة تستطيع أن تشعرنا بأن أغرب الأمور يمكن أن تقع، لمجرد أنها معقولة، ممكنة.
إذا كان لا بد من الحديث عن قواعد الفن الروائي، فمن المحتم أن نشير إلى أن العمل هو أساس كل قاعدة، العمل في حرارة واستمرار. وبعد هذا، فإن لكل كاتب أن يضع القواعد التي يريد. فمنذ أن ترتسم في ذهنه ملامح الرواية؛ يجد نفسه ملزماً بطريقته الخاصة في الأداء. ومثلما تأتي الأفكار الجديدة أثناء الكتابة تتحدد أشكال جديدة لكل أسلوب. إننا لا نريد من الروائي طريقة تتبع، بل نريد وثبات جديدة في آفاق التجربة الإنسانية. وها هنا يمكن أن تعترضنا مشكلة الأخلاق. ألا ينبغي أن يكون للرواية هدف توجيهي؟.. لا.. لا يمكن للوعظ والإرشاد في الرواية. إن تصوير الإنسان على حقيقته هو غاية مثلى، ما دامت الحياة بكل متناقضاتها جديرة بأن تعاش وتفهم وترسم. بل إن هذه الغاية هي السبيل الوحيد للتحرر من الأوهام والأحكام الخاطئة. فحين تهرم أمة ما، وتتعرض النفوس للانهيار والفساد، لا يكون ثمة مجال للخلاص إلا بتعرية الطبيعة البشرية، وتحليل نزعاتها في مزيد من حب الحقيقة. كيف يمكن القضاء على الرذيلة إذا لم تفضح؟.. على أن هناك بوناً شاسعاً بين الذين يقولون الحقيقة في صدق لأنهم يحبون الإنسان كما هو في واقعه، وبين الذين يسلبونه كل جدارة، حين يلفقون عنه الأكاذيب، من هؤلاء من يكتبون عن مفاسد الحياة في مغالاة مقصودة وتزييف مصطنع، لأنهم أجبن من أن يعترفوا بنزواتهم الأنانية البائسة، ومنهم من يزخرفون الوقائع بألوان من التفاؤل الكاذب وتبدو آثارهم أشبه بنوع من الثمار في أمريكا، ألوانها مشرقة ولكنها مفعمة بالسم القاتل.
إن الرواية هي ظل التاريخ. والتاريخ لا يحابي بل يجابه الإنسان بجميع الوقائع التي تخط له مصيره. لقد روى المؤرخ العربي أبو القاسم طريف بن طارق، قصة عن البرج المسحور تبدو لأول وهلة حكاية عادية ولكنها كانت أساساً حياً لرواية كبيرة لم تخرج وقائعها عن السطور الموجز التي سرد فيها المؤرخ بداية الحرب بين العرب والإسبان. غير أن الوقائع التاريخية تبدو جافة مملة من دون الدقائق الحارة التي تمثلها النزعاة المتناقضة في حياة البشر. وهي التي تجعل الواقع رواية.


المصدر: فكرة حول الروايات للماركيز دي ساد (كتاب الشهر)، عرض وتلخيص صدقي إسماعيل، مجلة المعرفة، عدد 16، 01 أفريل 1963، ص 136-143.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق