الأحد، 22 مايو 2016

ايميلي دو تورفيل أو القسوة الأخوية: الماركيز دو ساد



ترجمة رويدة سالم


by Pierre-Yves Le Strat


لا يوجد في الأسرة ما هو أكثر قداسة من شرف أفرادها، لكن هل يعود الفضل في المحافظة على هذا الكنز بكل قيمته الثمينة الممكنة للدور المهين للمضطهدين المهمومين بحمايته إزاء المخلوقات التعيسة التي تشكل تهديداً؟ ألن يكون أكثر عقلانية الوعي بتلك الأهوال التي يعرضون لها ضحيتهم وإدراك حدود ذاك الشرخ الوهمي في أغلب الأحوال الذي يشتكون من أنهم ضحاياه؟ من هو الأكثر ذنباً في المنطق الفتاة الضعيفة المخدوعة أم ذلك الفرد من أسرتها الذي ينصب نفسه منتقماً لشرف العائلة فيتحول إلى جلاد لسيئة الحظ تلك؟
ربما سيقودنا الحدث الذي سنطرحه على قرائنا إلى حل هذه الإشكالية.



 سمع الكونت " دي ليكسوي"، الملازم العام ذو السادسة والخمسين من العمر أثناء عودته من إحدى أراضيه في "البيكاردي" وعند مروره من غابة "الكومبيانيو" حوالي السادسة مساء في أواخر نوفمبر، صراخ امرأة بدا له انه آت من جانب إحدى الطرق القريبة من الحقل الذي كان يعبره. توقف وأمر خادمه الخاص الذي كان يجري بمحاذاة عربته أن يذهب ليستجلي الأمر  فنقل له هذا الأخير أنها فتاة في السادسة أو السابعة عشرة غارقة في دمها دون أن يكون من السهل تبين جراحها وأنها تطلب النجدة. ترجل الكونت حالاً وأسرع بنفسه لرؤية المسكينة. وجد بدوره صعوبة في معرفة من أين تنزف بسبب الظلام لكن أخيراً وانطلاقاً من إجاباتها لاحظ أنها مجروحة في ذراعها في مستوى الوريد من حيث ينزف الدم عادة. قال الكونت بعد أن عالج هذه الإنسانة بكل ما أمكنه من وسائل:
-      آنستي لست هنا في وضعية تسمح لي أن أسألك أسباب آلامك كما أنك لست مطالبة أبداً بإخباري بها. اصعدي أرجوك إلى عربتي ولتكن الإسعافات الأولية التي قدمتها لك الآن سبباً في جعلك تهدئين ومبرراً يجعلني أسعد بتقديمي للمساعدة.
أثناء قوله هذه الكلمات قام السيد "دي ليكسوي" بمساعدة خادمه على وضع تلك الآنسة المسكينة على الكرسي وانطلقوا. حالما رأت تلك الإنسانة المثيرة للاهتمام نفسها في مأمن حتى حاولت التفوه ببعض كلمات الامتنان لكن الكونت رجاها أن لا تتكلم مطلقاً قائلاً لها:
-      غداً آنستي... غدا ستخبرينني كما أرجو بكل ما يخصك لكن اليوم وبكل ما يمنحني إياه السن وفضل أني كنت مفيداً لك من سلطة، أطلب منك بكل إصرار أن لا تفكري إلا بأن تُهدّئي من روعك.
حين وصلوا غطى الكونت محميته بمعطف رجالي لتجنب انكشاف أمرها ثم أمر خادمه بأخذها لغرفة في شقة مريحة في طرف قصره على أن يأتي لزيارتها بعد أن يرى زوجته وابنه اللذين كانا ينتظرانه في ذلك المساء على العشاء. عاد الكونت لرؤية المريضة ومعه جرّاح. عند زيارتهما لتلك الشابة ورغم أنه لم تكن لها لديها أي جراح خطيرة وجدا أنها تعاني اكتئاباً لا يوصف وأن شحوبها يوحي بأنه لم يبق لها إلا بضع لحظات قبل الموت. قالت حول سر ضعفها أنه بسبب الكميات الكبيرة من الدم التي فقدتها يومياً منذ أشهر وحين شرعت في إخبار الكونت بالسبب الخارق للطبيعة لهذا الفقد المهول انهارت فقال الجراح أنه يجب تركها مرتاحة والاكتفاء بأمر تمكينها من أكل جيد ومعاملة ودودة.
قضت فتاتنا الصغيرة التعيسة ليلة مريحة جداً وطوال ستة أيام لم تكن قادرة على إخبار ولي نعمتها بالأحداث التي تعرضت لها لكن في نهاية مساء اليوم السابع وكان أمر اختفائها لا يزال مجهولاً من طرف كل من يقطنون في بيت الكونت كما لم تكن هي ذاتها تعلم نظراً للاحتياطات المتخذة أين هي موجودة، رجت الكونت أن يسمعها ويمنحها الغفران مهما تكن الأخطاء التي ستعترف بها له، فاتخذ الكونت دو ليكسوي مقعداً قبالتها وطمأنها بأنه لن يحرمها العناية التي أولاها لها منذ التقى بها ثم شرعت مغامِرتنا الجميلة في سرد قصة شقائها

قصة الآنسة "دي تورفيل"
   
سيدي أنا ابنة الرئيس "دي تورفيل" الشهير وذو المركز المميز جداً لكي لا يكون مجهولاً من طرفك. منذ سنتين وهو تاريخ مغادرتي للدير لم أترك منزل أبي أبداً. فقدت أمي في سن صغيرة جداً فاهتم هو وحده بتربيتي ويمكنني القول إنه لم يهمل شيئاً ليمنحني كل النعم ووسائل الراحة الخاصة ببنات جنسي. هذا الاهتمام إضافة للمشاريع التي كان أبي يعلنها حول تزويجي بأفضل ما يكون من حظوظ ومن المحتمل أيضاً بسبب تفضيله لي، كل هذا كما قلت لك أثار سريعاً غيرة أخويّ، وأحدهما رئيس منذ ثلاث سنوات ويبلغ ستة وعشرين عاماً والثاني مستشار منذ وقت قليل وسيبلغ قريباً الرابعة والعشرين.
    لم أتخيل أن أكون مكروهة إلى ذلك الحد من طرفهما كما أجد اليوم من المبررات ما يقنعني بذلك. كنت أعيش في الوهم اللذيذ أنهم يبادلونني المشاعر التي أحملها لهم بكل براءة في قلبي بما أني لم أفعل شيئاً لأستحق من طرفهم تلك الكراهية. آه يا الهي كم كنت مخطئة! باستثناء فترة الاعتناء بتربيتي في الدير، تمتعت عند أبي بأكبر قدر ممكن من الحرية. كنت مسئولة مسؤولية تامة على سلوكي فأبي لم يكن يجبرني على شيء ومنذ حوالي ثمانية عشر شهراً مُنِحت حق التجول صباحاً مع خادمتي الخاصة في ساحة "التويلوري" أو على السور المحاذي لمنزلنا وأن أقوم برفقتها ببعض الزيارات لصديقاتي أو قريباتي سيراً على الأقدام أو في سيارة أبي على أن لا يكون ذلك في الساعات التي لا يمكن فيها لشابة صغيرة أن تكون أبداً وحدها وسط لقاءات عامة. هذه الحرية القاتلة وحدها كانت سبب كل عذاباتي. إنها سبب كل مآسيّ لهذا حدثتك عنها، سيدي. يا الهي لو لم أتمتع بها أبداً!

الأربعاء، 20 أبريل 2016

حَوَادِيثُ، حِكَايَاتٌ وَخُرَيْفَاتٌ: الماركيز دو ساد



ترجمة رويدة سالم


الخدعة السعيدة
ثمة كثير من النساء غير الحريصات يتخيلن أنه بمَ أنهن لا يتورطن كثيراً مع عشيق فيمكنهن دون إهانة أزواجهن بأن يسمحن لأنفسهن على الأقل بعلاقة تودّد مع رجل، وينتج غالباً عن هذا الأسلوب في التعاطي مع الأشياء نتائج خطيرة كأن سقوطهن كان مكتملاً. ما حدث للماركيزة "قويساك"، وهي امرأة من الطبقة الأرستقراطية في نيم من مقاطعة آلون غدوك، دليل على ما نقدمه هنا كقاعدة.
اعتقدت السيدة "دو قويساك"،الحمقاء المتهورة والمرحة شديدة الفطنة والكياسة، أن بعض الرسائل العاطفية التي تتبادلها مع البارون "دوميلاس" لن ينجم عنها أيّ نتيجة، أولاً لأنه لا أحد سيعلم بها، وثانياً لأنه في حالة ما إن اكتُشف أمرها وبمَ أنها قادرة على إثبات براءتها لزوجها فلن تحتاج لطلب الرحمة منه، لكنها أخطأت، فقد تسرب الشكّ إلى السيد "قويساك" الغيور جداً فشكّ في علاقة تودّد واستجوب خادمة زوجته وأخذ منها الرسالة ومع انه لم يجد في البداية ما يبرر مخاوفه إلا أنه كان فيها ما يكفي لتغذية شكوكه.
وفي حالته القاسية من الشكّ، أخذ معه مسدساً وكأس ليمون، ودخل حانقاً إلى غرفة زوجته. صاح في وجهها غاضباً:

-      لقد خنتني، سيدتي. اقرئي هذه الرسالة التي بينت لي ذلك. لم يعد الوقت مناسباً للتلاعب بي، وها إني أترك لك أن تختاري طريقة موتك.
دافعت الماركيزة عن نفسها وأقسمت لزوجها أنه مخطئ وأنها يمكن حقاً أن تكون مذنبة بسبب طيشها لكنها بكل تأكيد لم تقم بأي جرم.
أجابها زوجها حانقاً:
-      لا تثقلي عليّ أكثر أيتها الخائنة. لا تثقلي عليّ أكثر واختاري بسرعة موتك وإلا فسيحرمك هذا السلاح للتوّ من الحياة.
قررت السيدة "قويساك" المسكينة المرتعبة أن تختار السم وتناولت الكأس وبدأت شربها.
قاطعها زوجها حين شربت كمية لا بأس بها من الكأس قائلاً:
-      توقفي. فلن تموتي وحدك. بمَ أنك تكرهينني وقمت بخيانتي فماذا عليّ أن أصبح في نظر العالم؟
وبينما يقول هذا الكلام تناول الكأس وشرب منها ما بقي فيها، فصاحت السيدة "قويساك":
-      آه يا سيدي في هذه الحالة الرهيبة التي وضعتَ كلاً منا فيها، فلا تحرمني من رؤية كاهن الاعتراف وأن أتمكن في الوقت نفسه من تقبيل أبي وأمي للمرة الأخيرة.
أرسل الماركيز مباشرة في طلب الأشخاص الذين أرادتهم السيدة سيئة الحظ.
ارتمت في حضن الأبوين اللذين منحاها الحياة واحتجت من جديد مؤكدة أنها غير مذنبة، لكن أي لوم قد يوجه لزوج يظنّ أنه قد خانته زوجته ولا يعاقبها بكلّ هذه القسوة إلا ويخضع هو بدوره للمصير ذاته؟
لم يعد ثمة مجال إلا لليأس وعلا البكاء من كل اتجاه.
عندما جاء الكاهن قالت الماركيزة :
-      في هذه اللحظة القاسية من حياتي أريد أن أعترف علانيةً لمواساة والدي ولتبقى ذكرايَ طاهرة.
ثم اتهمت نفسها بصوت عال بكل ما أملاه عليها ضميرها من آثام أتتها منذ ولدت.
نهض الزوج، منتبهاً لما تقوله زوجته فلم يسمعها تتكلم قط عن البارون "دومولاس" مع ثقته أنها في مثل هذا الظرف لن تلجأ لإخفاء شيء، وصاح معانقاً حماه وحماته وهو في قمة السعادة:
-      أبويَّ العزيزين هوّنا على نفسيكما ولتسامحني ابنتكما لما سببته لها من رعب لكنها سببت لي ما يكفي من القلق فسمحت لنفسي أن أسبب لها بعضاً منه. لا يوجد بالشراب الذي تناوله كلانا سمّ قط، فلتطمئن هي ولتطمئنوا جميعكم ولتتعلم هي على الأقل أنه لا يجب على المرأة الشريفة حقاً أن ترتكب شراً، بل ألاّ تقوم أيضاً بما قد يُسبب أدني شك.
عانت الماركيزة عذابات الدنيا لتعود لحالتها الطبيعية. فقد ظنت أنها تسممت حقاً حتى أن قوة خيالها جعلتها تحسّ بكلّ ما قد يسببه موت مشابه من جزع. قامت مرتجفة وضمت زوجها وحلّ الفرح محل الألم.
ووعدت في صدقٍ السيدة الشابة، التي قوَّم المشهد الفظيع سلوكها إلى أبعد حد، أن تتحاشى مستقبلاً أبسط مظهر من مظاهر الأخطاء، واحترمت وعدها وعاشت مع زوجها أكثر من 30 سنة فلم يجد مبرراً أن يوجه إليها أدنى تأنيب.
****

الأربعاء، 13 أبريل 2016

السفاح والكتابة عند ساد: بياترس ديديه



ترجمة: حسين عجة



By Takato YAMAMOTO
لا شك أنّ جريمة السفاح، من بين كلّ جرائم العشق في أعمال ساد الروائية، تحتلّ مكانة مميزة.  فالعقدة التراجيدية "لدورجفل" (Dorgeville) تكشف عن نفسها عبر الجملة الوحيدة التالية: «حسناً، يا "دورجفل"، لتقر أنّك تتعرّف على أختك المجرمة من خلال زوجتك السيئة الحظ هذه»! أمّا في رواية "فلورفيل" (Florville) و"كورفال" (Corval)، فيطال الموضوع ذروة تعقيده؛ كذلك نشعر ضمن أي فرح يسمح الروائي-الخالق (romancier -démiurge)، قبيل الخاتمة، بالكشف عن تعدّديّة العلاقات والجرائم المشدودة في عقدة واحدة: «لتعترف بي، يا "سنفال" (Senneval)، لتعترف في آن معاً بأختك، تلك التي أغوتك في مدينة "نانسي" (Nancy)، قاتلة ولدك، وزوجة والدك، والكائن الشنيع الذي قاد أمك إلى المشنقة».  على العكس من ذلك، تمثل رواية "يوجيني دو فرانفل" (Eugenie de Franval)  الحدّ القصي من البساطة؛ غير أنّ تلك الوحدة ليست فاعلة إلاّ من حول انفعال واحد (seule passion)، متطرّف، وتم إعداده منذ وقت بعيد لكي يكون ناضجاً: عشق الأب لابنته الفتية تماماً.
في نفس المرحلة، يؤلف ساد "مائة وعشرون يوماً" (cent vingt journées) حيث يتخيل جماعة من الخُلعاء المتحدين عبر شبكة علاقات سفاحية (incestueux): «منذ أكثر من ستة أعوام كان هؤلاء الفساق الأربعة المُتطابقون بثرائهم وذوقهم، يتخيّلون تقوية علائقهم أكثر عن طريق التحالفات التي يحتلُّ فيها الفجور موقعاً أكبر من أيّ دافع آخر، أي الدوافع التي تُؤسس عليها عادة العلاقات». وفي رواية "فلسفة الصالون الصغير" (la philosophie dans le boudoir)، تنفجر "يوجيني": «ها أنا إذاً سفاحة، خائنة لزوجها، وممحونة في آن معاً»!
إلى جانب هذه الممارسة السفاحية بين الشخوص الأكثر دلالة في العالم الساديّ، تُضاف، كبطانة للفعل، نظرية (une théorie). في "يوجيني فرانفل"، يستدعي الأب التقاليد القديمة، ولأنّ محاوره هو بالدقة قسّ، لذا يشير إلى الأنجيل وقصة لوط (l’histoire de Loth). وفي "لتبذلوا، أيها الفرنسيون جهداً أكبر، إذا ما أردتم أن تكونوا جمهوريين" (Français encore un effort si vous voulez être républicains)، يشرعُ ساد بتبرير سياسة السفاح (politique de l’inceste): «هل أنّ السفاح خطير؟ كلاّ، لا، أبداً، إنه يوسع العلاقات العائلية وبالتالي يجعل حب المواطنين للوطن أكثر فاعلية». بعد ذلك، يُطرح ما لا حصر له من الأمثلة، التي يلجأ إليها ساد عبر مناقبية تاريخية وجغرافية، لكي ينتهي بالقول بأنّ السفاح نتيجة مباشرة للـ "التجمع النسويّ" الذي ينبغي تأسيسه في الجمهورية الحقيقية.

السبت، 30 يناير 2016

دستويفسكي ضدّ الماركيز دو ساد: جون آتاريان



ترجمة: أسماء القناص


Fedor Dostoievski by Séverine Scaglia
كان الماركيز دي ساد (1740-1814)، الفاجر، المُنحرف والإباحي، شخصيةً مِحورية في الفكر الغربي. قدّمت رواياته مثل: "جوستين" (1791)، "الفلسفة في المخْدَع" (1795)، "جولييت" (1797) ولأول مرّة الفلسفة العَدمية مُوضحةً كُل ما يترتب عليها من شُرور.
لقد تدفقت فلسفة ساد من تضخّم الأنا، مما دفعهُ إلى التطّرف الشديد في مُحاربة الإيمان. إن عدم وجود الله يجعل من الكون مُجرد طبيعة مادية بحتة، آلية تشغيل ذاتي «الحركة الدائبة للمادة تُفسر كل شيء». إن البشر مُجرد آلاتٍ تتملصُ من المسؤولية الأخلاقية، وطالما لا توجد حياةٌ أخرى، فإن سلوككَ غيرُ مُهم، سواء كُنت مُنحرفاً، أو فاسِداً. تُؤكد الأعرافُ المحلية أن الأخلاق نِسبية، وتختلِف باختلاف الثقافة، والجغرافيا، وبالتالي مُبتدعة. الطبيعة وحدها هي دليلُنا الأخلاقي، ومُذْ تبنّت الطبيعة مَسألة خلِق حيوات جديدة من أشكالِ الحياة الميتة، أصبحتْ أهميةُ البشر لا تعلُو عنِ الحشرات، جميعُهم سواسية. استخدمَتْ الطبيعة الجرِيمة، التدمير، والموت ضرورةً ومُتعةً لها، لذلك يكونُ القتلُ أمراً طيّباً، والسفّاح هو أسمى صورة من صور البشرية.
لقد وُلد الفردُ وحدهُ، وهو المُهم فقط، لا وجود إلا لدوافِعه الأنانية، وبدون أية التزامات لأحد. كُل فرد مُحرّض ضِد الآخرين «أُمتّع نفسي بغض النظر عنِ الحساب». الفردُ يميلُ بطبيعته إلى الهيمنة، وإلحاق الألم بالآخرين، وهذا ما يُمتعه، لذلك الناسُ العادية ليست إلاَّ كائنات نَفعية، لُعبةٌ بيد الأثرياء، الأقوياء، والإلهيون. أولئكَ الذين لا يمنحُون الحُب على الإطلاق. يكون الجمالُ، والبراءة، مُلهماً للقسوة، والتصرفاتِ الشيطانية. منذُ جعلت المادية المُتعة تتناسبُ طردياً مع الإثارة، بقدر ما كُنتَ قاسياً، بقدر ما تستمتع. لذلك فإنّ الأنانية، التطرّف، والقسوة هي المسارُ الصحيح.
إذا لم يكُن هناك إله، جحيم، لا حق، ولا باطل، وبدون أية مسؤولية أخلاقية، فلا وجود لمعنى يتجاوزُ حدود المُتعة، ثم يكون الوُجود بأكملِه، بلا أية معنى أو قيمة. لا شيء مما تفعلهُ يبدو مُهماً، والآخرون يفقدون قيمتهم، ما تفعله معهم، ولهم لا يعني أية شيء. إن العدمية تُحرّرنا، وعندها يُصبحُ كل شيء مسموحاً.
سوّغ ساد باستمرار الأنشِطة الجنسية الأكثر انحطاطاً، وتفسخاً، وقام بتبرير كُل جريمة تتضمن القتل، وأكلَ لُحوم البشر. لقد قاد الضجر، والنهم ساد لأبشع الجرائم التي بلغت ذروتها في المجازِر، حتى أن جرائمهُ الغارقة في الشر جعلتْ مِن التوبةِ، والاستقامة أمراً مُستحيلاً. وبسبب عجزِ الواقع عن إشباع رغباته اللامحدودة، الرغباتُ المتلهفة نحو الدمار الشامل، أصبح الإحباط، والسخط حليفاً له.
بما أن دينامية الشر، ووجهات نظر ساد في القسوة، والقتل تُشير إلى أن العَدمية في نهاية المطاف شيطانية لا أكثر، ولا تحتوي إلا على تدنيس للمُقدسات، إدانات مسعُورة لله، والمسيحية، والمُمارسات الشيطانية بما فيها السوادُ الذي يَطغى روايات ساد، حيثُ المركز الوحيد هو التمرّد، والسعي للتفوق عن طريق الشر، والسيادة.
أثّر ساد بشكل واضِحْ على الكُتّاب الرومانسيين، والمنحلين أمثال: تشارلز بودلير، جوستاف فلوبير، ألغرنون سوينبرن وراشيلد. لقد أخبرُهم ساد ما أرادوا سماعه، وسَعتْ فلسفتهُ لتحريرهم، وحثّهم على الانغماس، والتعبير عن هوسهم في القسوة، والانحراف، لذلك ساهَم ساد بشكل جلي في تفشّي هذا المرض في الفكر، والثقافة الغربيين.

الأربعاء، 16 ديسمبر 2015

أصول التعذيب في الأدب: برناردت ج. هروود



ترجمة ممدوح عدوان

Sculpture by Olivier de Sagazan
في كل عام تظهر كمية هائلة من القصص التي تعالج، ولو جزئياً، الوحشية الجسدية. وعلى الرغم من أن السادية- المازوشية قد لا تكون في صلب الموضوع إلاّ أنها تكون متوفرة في نسبة كبيرة من القصص. وأحد الأدلّة على ذلك يبدو في عدد المبيعات الهائل لما يسمى مدرسة الكتابة البوليسية الواقعية. إن شعبية الملف الأدبي تعكس ذوق المجتمع. فالذين لا يستطيعون، لسبب أو لآخر، أن يخلقوا الجحيم الذي يتوقون إليه، يشبعون رغباتهم في العالم الخيالي للكتب وأفلام السينما والتلفزيون.
وكل من يستطيع القراءة هذه الأيام صار على صلة بكلمتي السادية والمازوشية. وما لا يعرفه إلا القلة أن كلاً من التعبيرين يمدّ جذوره العميقة في عالم الأدب. ولقد اشتقت الكلمتان من إسمي نبيلين أوربيين هما الكونت دوناتييه ألفونس فرانسوا دو ساد والفارس ليوبولدفون ساشر مازوش. ومن المستحيل البحث في الجوانب الأدبية للتعذيب دون التنقيب عن دو ساد الفرنسي وساشر- مازوش النمساوي وليس فقط أن كتاباتهما تمثل الحد الأقصى المتطرف من حالة شذوذ جنسي محدودة بل إن قصتي حياتهما الشخصيتين تساهمان في توضيح كيف أن اسميهما قد اندرجا بين التعبيرات العلاجية السريرية.
ولد الماركيز دو ساد في الثاني من حزيران عام 1740 في احدى أبرز العائلات في وسط النبلاء الفرنسي. ولد معه لقب ماركيز ثم ورث لقب الكونت بعد موت والده. إلا انه وقد كون شهرته قبل موت الأب فإن اللقب الأول أكثر شيوعاً. وكان عدد من أسلافه قد أرسوا مكانة متميزة للعائلة كرجال دين وأبطال عسكريين ورجال دولة. وما من شك أن أشهر أسلافه جدته ني القرن الرابع عشر لورا دونوف التي خلدها بترارك في شعره ثم أصبحت زوجة هيغو دوساد مؤسس العائلة.
قضى المركيز الصغير السنوات الأربع الأولى من حياته مع أمه، وهي ابنة أخ الدوق دوريشيليو سيء الصيت ووصيفة الأميرة دو كوندي من آل بوبورن. وأفسد دوناتيين، الطفل الجميل ذو الشعر الذهبي الطويل والعينين الزرقاوين الواسعتين والتفاصيل الدقيقة بالتدليل والملاطفة اللذين كان يجدهما عند كل من حوله. لم يكن ليمنع عنه أي وجه من وجوه الرفاه. ولما كان قد أظهر دلائل النجابة منذ أن كان في الرابعة فقد بدا يزعج من هم أكبر منه. وعلى الرغم من أنه كانت له ملامح ملاك إلاّ أن مزاجه كان شيطانياً. فحين لا يفعل ما يشاء يتحول إلى منطو حقود. وبكلماته هو كان «مغروراً متسلطاً سريع الغضب.»
إلاّ أنه لم يكن أمراً غير عادي أن تبرز هذه المواصفات في نبيل غرّ أيام لويس الخامس عشر؛ وبالنسبة لـ دو ساد فقد كانت المسألة كامنة في أنه أذكى ممن هم أكبر منه. وكان ذلك مفسداً ليافعي القرن الثامن عثر مثلما هو مفسد اليوم. ومع الأيام أرسل الغلام إلى المقر الريفي لعمه فرانسوا، وهو كاهن بحاثة هجر الحياة الدنيا في باريس وانقطع إلى الدراسة والتأمل. وهناك نمى الماركيز تعطشه للمعرفة وحبه للكتب. وحين أصبح  في العاشرة من عمره انخرط في الجزويت في( كلية لوي دوغراندا) في باريس.
وحين صار عمره أربعة عشر عاماً كان قد حصل على ثقافة عالية. تفوّق في اللاتينية واليونانية وتألق في المبارزة والمناقشة والتمثيل والفنون الجميلة وأسفر عن موهبة متميزة في الرسم والنحت. وفي ذلك الحين أيضاً غرق في الملذات الجنسية التي ميزت فرنسا القرن الثامن عشر ما قبل الثورة. وتحول إلى رحالة في دروب الجسد في فترة خدمته العسكرية ما بين 1754 و1963. ولقد قضى جزءاً من هذه الفترة العسكرية في ألمانيا حيث اشترك في حرب السبع سنوات. والجانب الوحيد الذي كان يستمتع به في حياته العسكرية هو الاستمتاع بالإجازات، وكان أفضلها ما يقضي في المباغي حيث كانت الممارسات الجنسية الغريبة تعمل على إثارة الشهوات المتخمة لدى الزبائن الأرستقراطيين.

الأربعاء، 4 نوفمبر 2015

سـاد: جورج باتاي

ترجمة محمد عيد إبراهيم 
                                                                      
                                                                
وسط هذه الملحمة الملوكيّة نرى رأساً عاصفاً يومض، صدراً ثقيلاً يعبر مع البرق، الرجل القضيب، لمحة مهيبة ساخرة تلوي قسماته مثل تيتان(1) شبحيّ سامٍ؛ نحسّ برِجفة المطلق في الصفحات الملعونة، بأنفاس المثال العاصف بين هاتَين الشفتَين الحارقتَين. ادنُ قريباً فستسمع شرايين روح كلية، أوردةً متورّمة بدم قدسيّ تنبض في جثّة نازفة موحلة. مثل هذه البالوعة منقوعة في لازَوَرديّ، ثمة عنصرٌ نظيرُ إلهيّ بهذه المراحيض. سُكّ أّذنكَ عن قعقعة الحِراب وقصف المدافع؛ حوِّل عينكَ عن هذا المدّ الجوّال من الحرب، من الانتصارات أو الهزائم؛ فقد ترى شبحاً هائلاً ينفجرُ أمام الظلال؛ قد ترى قامةً رحبةً مشؤومة للماركيز دو ساد وهو يتبدّى فوق دهرٍ مخيطٍ بالنجوم. 
سوينبرن(2)

Depiction of the Marquis de Sade
 by H. Biberstein
لماذا زوّدتنا فترة الثورة بأمجادٍ من الفنون وعالمٍ من الرسائل؟ عنفٌ مسلّح منسجم بصعوبة مع ثراء الميدان الذي نستمتع به وقت السلام. تُبدي الصحفُ مصيرَ الإنسان بكلّ ما فيه من ذعر. هي البلدة نفسها، لا أبطال المآسي والروايات، تهب العقل رجفة مما تزوّدنا به من شخوص خيالية. أي رؤية فورية للحياة بائسة بالمقارنة مع تلك التي يفصّلها المؤرّخ بذكرياته وفنونه. لكن لو طبّقنا الشيء ذاته على الحبّ، الذي تقع حقيقته الجلية في الذكريات [كثيرة هي غراميات الأبطال الخرافيين، تبدو لنا عادةً حقيقيةً أكثر ممّا لدينا]، أَمِن الحقّ القول إن لحظة الحريق، حين يتكشّف منقوصاً بوعينا البليد، تستغرقنا كلياً؟ زمان التمرّد غير مرغوب فيه أساساً مع تطوّر الفنون. من اللمحة الأولى نرى الثورة فترة مجدبة في الأدب الفرنسيّ. ثمة استثناء واحد قد نقدّمه، لكنه يتعلّق برجل غير معتَرَف به ـ كان، وهو حيٌّ، ذا سُمعة، لكنها سُمعة سيئة: حالة ساد، فهو استثنائيّ جداً، يبدو أننا نؤكّد هذا الجدب بدلاً من إنكاره. 
لنبدأ فنقول إن الاعتراف بعبقرية ساد وجماليات ومغزى عمله مستَجدّ. وساهمت في ذلك كتابات جون بولون(3)، بيير كلوسوفسكي(4)، وموريس بلانشو(5). لم يحدث قبلها هذا الثناء الرائع الذي ساهم في تأسيسٍ بطيء بل أكيد لسُمعة ساد.  

ساد واقتحام الباستيل
ترتبط حياة ساد وأعماله واقعياً بحوادث تاريخية، لكن بأغرب طريقة ممكنة. فلم يكن الحسّ بالثورة من "معطيات" أفكاره، إن كان ثمة رابط كهذا بين العناصر المتفاوتة لشكله اللامنتهي ـ بين الدمار وبعض الصخور، أو بين الليل والصمت. وعلى رغم أن ملامح هذا الشكل تظلّ محيرة، إلا أن الوقت قد حان لتبيانها.  
لبعض الحوادث قيمة رمزية أكبر من اقتحام الباستيل. في الاحتفالية لإحياء ذكراها، يحسّ كثير من الفرنسيين بما يوحّدهم مع سيادة بلدهم وهم يشاهدون وشمَ مِشعلةٍ تتقدّم عبر الظلام. هذه السيادة الشعبية، وهي هائجة متمرّدة، صرخة لا تُقاوَم. وليس ثمة رمز احتفاليّ أفضل من التدمير المتمرّد لسَجن. الاحتفالية، كسيادة بالتحديد، هي جوهرُ إطلاق السراح، منه تتقدّم سيادة عنيدة. لكن، هل ينقص الحدث عنصر من المصادفة، هل تنقصه نزوة، لكيلا تكون له الأهمية ذاتها: ولهذا فهو رمزيّ، متباين عن الصيغة المجرّدة.   
يُقال إنه لم يكن لاقتحام الباستيل حقاً تلك الأهمية التي تُعزَى إليه. وهو أمر ممكن. فلم يكن في يوم 14 يوليو 1789 أيّ مساجين ذوات قيمة. وقد تأسّس الحدث من سوء تفاهم، سوء تفاهم، وفقاً لـ ساد، ابتدعه هو نفسه. ويمكن القول إن هذا العنصر الملتبس هو ما يمنح الواقعة بكاملها تلك النوعية العمياء، المجهولة نسبياً، من دون أن تكون أكثر من استجابةٍ لإملاءات الضرورة، كما يحدث في مصنع. لا تُنكر النزوة، أو المصادفة جزئياً الاهتمام الناشئ مع 14 يوليو، بل تمنحه أيضاً الاهتمام الطارئ.
حينما قرّر الناس أنه حدث سيرجّ العالم، إن لم يحرّره، كان أحد المحرَّرين المشؤومين في الباستيل هو مؤلّف "جوستين"، وهو الكتاب الذي يؤكّد لنا جون بولون في مقدمته أنه سيعرض أمامنا مسألة عويصة استغرقت حوالي قرن من الزمان للردّ عليها. سُجن ساد عشر سنوات وفي الباستيل منذ 1784. وهو أحد أكثر الناس تمرّداً وغضباً حين يتكلّم عن التمرّد والغضب، بإيجاز، هو وحش، مسكون بفكرة الحرية المستحيلة. أما مخطوطة "جوستين" فكانت في الباستيل حتى يوم 14 يوليو، لكن، مثلها كمخطوطة "120 يوماً في سدوم"، مهملة بزنزانة فارغة.
نعرف أن ساد كان يخاطب الحشود قبل يوم من الانتفاضة. يبدو أنه استغلّ الأنبوب المستعمل لصرف مياه المجاري كمكبّر صوت مدوٍّ، ومن بين أفعاله التحريضية الكثيرة كان هتافه عالياً بضرورة ذبح المساجين. وهو أمر متّسق مع الطبيعة التحريضية لحياته وأعماله كافّةً. لكن الرجل الذي يرزح تحت الأصفاد من عشر سنين كتجسيد غاضب منتظراً إطلاق سراحه من وقت طويل، لم تُطلق سراحه "غضبة" الدهماء. قد يحدث غالباً أن يسمح لنا الحلم بلمحة مكروبة عن إمكانية تامة تتكشّف في اللحظة الأخيرة جواباً محيّراً يُرضي رغبةً ساخطة. سُخط السجين يعيق إطلاق سراحه ثمانية أشهر. لقد طلب الحاكم نقل ساد، الذي كان متّفقاً بوضوح مع الثائرين. حين تحطّم المزلاج وملأ الدهماء الممرات، كانت زنزانته فارغة. تسبّب الهياج في فقدان المخطوطات المبعثرة من مؤلفّات الماركيز. 120 يوماً في سدوم، أول الكتب المعبّرة عن الغضب الحقيقيّ الذي كان يحمله وعليه أن يسيطر عليه ويكتمه، الكتاب الذي قد يُقال إنه سيهيمن على الكتب كافّةً، اختفى. وبدلاً من تحرير مؤلّفه، ضيّع الدهماء المخطوط الذي كان التعبير الأول عن الرعب الكامل من الحرية. 
كان 14 يوليو تحرراً عن حقّ، لكن بحسّ خفيّ من الحلم. ومع أنهم قد عثروا على المخطوط فيما بعد، ونُشر في عصرنا، إلا أن الماركيز نفسه سُلب منه. ظنّ أنه راح للأبد، مما ملأه باليأس. فكتب «هي أكبر محنة كانت السماء تجهّزها لي». ومات، من غير أن يعي أن ما فُقد بلا عودة سيصادفونه، فيما بعد، ويُنشر ضمن "آثار خالدة من الماضي". 

الاثنين، 1 يونيو 2015

باروخ سبينوزا والماركيز دو ساد: كاتي يونغ


ترجمة: محمّد غيث الحاج حسين


Baruch Spinoza


تتقصّى هذه الورقة بعض الاختلافات والتشابهات بين فيلسوفي التنوير الراديكاليين باروخ سبينوزا والماركيز دو ساد، عبر مناقشة ثيمتين رئيسيتين من فلسفتهما، مفاهيمهما الميتافيزيقية عن الله والطبيعة، والأفكار حول الدين والأخلاق. من خلال المقارنة بين سبينوزا ودو ساد نقع على اختلافين اثنين، علاوة على ذلك نقع على مفاهيم مرتبطة بانبثاق العالم من البيئة الفلسفية للتنوير الراديكالي في أوربا.
اشتهر المركيز دو ساد بسبب أعماله الغروتسكية، الشائنة، وأعماله الداعرة التي عرفت فيما بعد بالسادية. سمعته كشخص دنيء وكريه، التي أول ما قدمت في مجتمعه، التصقت بعقول الكثير ممّن يسمعون باسمه اليوم. ولكن ما لا يعرفه الناس اليوم هو أنه يقف كمثال رائع على فلسفة التنوير معتمداً على عمل مفكّري التنوير الراديكاليين الرئيسيين، من أمثال باروخ سبينوزا. نحن نعلم أنّ دو ساد كان مطلعاً بشكل جيّد على مفكّر من طراز سبينوزا، فغالباً ما كانت شخصيات دوساد الخليعة، تمتلك وجهات نظر فلسفية، وتذكر سبينوزا وزملائه بالاسم كأمثلة على فكر رائع وعميق (بلوخ 2007، 5).
سأقارن في هذه الإضاءة بين فلسفة المركيز دو ساد وباروخ سبينوزا. وسأرسم أربعة خطوط رئيسية للمقارنة تبدأ بالتصورات الميتافيزيقية عن الله والطبيعة، لأصل إلى استنتاجات كلا الرجلين بالنسبة إلى الدين والأخلاق. هذا التحليل سيتطوّر من خلال قراءة خاصة لكتاب المركيز دو ساد "الفلسفة في المخدع" (1795)، وكتاب سبينوزا، "مقالة في اللاهوت السياسي" (2004)، وكتاب ستيوارت هامبشير "سبينوزا والسبينوزية" (2005). في مقارنة هذه الأعمال سأحاول أن أسلط الضوء على تأثير فكرة التنوير الراديكالي على الجانب التنويري في فلسفة الماركيز دو ساد. أبدأ بفحص تصورات المركيز دوساد عن الله والطبيعة قبل الدخول في مسألة كيف يمكن أن يُرى أثر سبينوزا، بالإضافة إلى تعليقاته المفترضة حول فلسفة دو ساد.
أولاً وقبل كل شيء فإنّ دو ساد ملحد ومادّي (Bloch 2007, 117). هو ينكر أيّ ذكر لله، وبالذات "الله" كما تقدّمه الكنيسة المسيحية. في غياب الله، يجب أن تأخذ الطبيعة دور الخالق، وأيضاً كما سنرى لاحقاً، دور الوسيط في الأخلاق. ينبذ دو ساد، ويشبه سبينوزا في ذلك كثيراً، الربّ المسيحي «قمّة العقل الإنساني، ليس سوى الشبح خلق هذا العقل ليطور عملياته فقط» (دو ساد 2007، 22). دوساد لن يعترف بالله حتى يثبت العقل والمنطق وجوده، الأمر الذي يراه مستحيلاً. هذا الإنكار للربّ المسيحي كمادّة للعقل، يعطي الدليل على تأثير سبينوزا الفكري على دو ساد، ولكن يضعه بثقة في التنوير، بتركيزه على العقل الإنساني كاختبار مطلق للحقيقة.
يتابع دو ساد في دعم استنتاجاته. فهو يحدّد غاية الله وحضوره في العالم، بقوله إن الله إن كان موجوداً فسيكون مفيداً فقط، في بداية كل شيء ليضع الأشياء في الحركة، كونه المحرّك الأول. حالما ينتهي من هذا الفعل سيكون ملغياً بالنسبة لمخلوقه، من خلال فضيلة الحركة والقوة المبدعة المتأصلة في الطبيعة (دو ساد، 207، 22). الافتراض بوجود ربّ راسخ كما تحاجج الكنيسة، سيبدو رسوخه "مقيتاً" بالنسبة للبشر الراشدين، فالسماح للشيطان بتهييج العالم بقدرته الكلية يمكنه من التدخل بسهولة. لماذا، هو يسأل، يعبد الإنسان خالقاً مرعباً كهذا؟ فكرة أنّ الشيطان موجود في العالم، أو في الحدّ الأدنى الظلم، تدعم حجة دو ساد ضدّ الله. إن كان كاملاً، فإنّ ألوهيته يجب أن تكون كذلك، وسوف لن يقبل الظلم في العالم. على أية حال وكما يرى الكثيرون، فالطبيعة غير عادلة في كثير من الأحيان؛ هذا الصراع سوف يضع الله في كفاح راسخ ضد الطبيعة، منكراً وضعه كخالق ثابت (22).
هنا يحيلنا دو ساد، وبشكل خاص جداً، إلى تأثير سبينوزا. فهو ينكر بشكل مباشر إمكانية أن يكون الله والطبيعة من جوهر واحد، المبدأ الذي يشتقّ منه كل نظام سبينوزا الميتافيزيقي (Hampshire 2005 40)  دو ساد يؤكد أن هناك جوهرين في الكون (رغم أنه لا يشير إليهما مباشرة كجوهرين، ولكن كأشياء): "الخالق والمخلوق" (دو ساد 2007، 22). التحدي الوحيد هو تبيان ماهية الخالق، كشيء غير الله، يدعى الطبيعة.
القدرة المتأصلة في الطبيعة (كما يشير سبينوزا أيضاً) تسمح لها أن تخلق وتعالج المسألة دون حاجة إلى "عنصر غريب" أو إله (دو ساد 2007، 22). في الطبيعة يمكن لنا أن نتحقق من أسباب وتأثيرات تغيراتها، بما يسمح "لنزواتها" أن تكون معروفة من قبلنا. هذا الأمر مقترناً بموقفنا، كجزء من الطبيعة، يسمح لنظامها أن يُدرك من قبل العقل الإنساني. مع الله، ليست تلك هي المسألة. البشر لليوم لم يفهموا جميع المسائل في العالم، ولكن أن تكون الطبيعة سبباً حدسياً ومستمراً للتغير في العالم هو من الناحية المنطقية أكثر قابلية للإدراك من الإله كخالق. «كيف تريد مني أن أعترف بشيء لا أفهمه، شيء لا أعيه تماماً؟» (23). العقل والمنطق هما المفتاح المعياري لفحص ادعاءات من يزعم أنه الخالق الأصلي. دو ساد حين يركز على العقل والمنطق ويؤكد على أن الطبيعة يمكن أن تفهم منطقياً، فإنه متأثر بسبينوزا والتنوير الراديكالي. (للاطلاع على وجهة نظر سبينوزا، انظر هامبشير 41) على أية حال فإن تأكيده على ثنائية الخالق / المخلوق تكشف عن حالة دو ساد كمفكر تنويري رفيع.