الاثنين، 1 يونيو 2015

باروخ سبينوزا والماركيز دو ساد: كاتي يونغ


ترجمة: محمّد غيث الحاج حسين


Baruch Spinoza


تتقصّى هذه الورقة بعض الاختلافات والتشابهات بين فيلسوفي التنوير الراديكاليين باروخ سبينوزا والماركيز دو ساد، عبر مناقشة ثيمتين رئيسيتين من فلسفتهما، مفاهيمهما الميتافيزيقية عن الله والطبيعة، والأفكار حول الدين والأخلاق. من خلال المقارنة بين سبينوزا ودو ساد نقع على اختلافين اثنين، علاوة على ذلك نقع على مفاهيم مرتبطة بانبثاق العالم من البيئة الفلسفية للتنوير الراديكالي في أوربا.
اشتهر المركيز دو ساد بسبب أعماله الغروتسكية، الشائنة، وأعماله الداعرة التي عرفت فيما بعد بالسادية. سمعته كشخص دنيء وكريه، التي أول ما قدمت في مجتمعه، التصقت بعقول الكثير ممّن يسمعون باسمه اليوم. ولكن ما لا يعرفه الناس اليوم هو أنه يقف كمثال رائع على فلسفة التنوير معتمداً على عمل مفكّري التنوير الراديكاليين الرئيسيين، من أمثال باروخ سبينوزا. نحن نعلم أنّ دو ساد كان مطلعاً بشكل جيّد على مفكّر من طراز سبينوزا، فغالباً ما كانت شخصيات دوساد الخليعة، تمتلك وجهات نظر فلسفية، وتذكر سبينوزا وزملائه بالاسم كأمثلة على فكر رائع وعميق (بلوخ 2007، 5).
سأقارن في هذه الإضاءة بين فلسفة المركيز دو ساد وباروخ سبينوزا. وسأرسم أربعة خطوط رئيسية للمقارنة تبدأ بالتصورات الميتافيزيقية عن الله والطبيعة، لأصل إلى استنتاجات كلا الرجلين بالنسبة إلى الدين والأخلاق. هذا التحليل سيتطوّر من خلال قراءة خاصة لكتاب المركيز دو ساد "الفلسفة في المخدع" (1795)، وكتاب سبينوزا، "مقالة في اللاهوت السياسي" (2004)، وكتاب ستيوارت هامبشير "سبينوزا والسبينوزية" (2005). في مقارنة هذه الأعمال سأحاول أن أسلط الضوء على تأثير فكرة التنوير الراديكالي على الجانب التنويري في فلسفة الماركيز دو ساد. أبدأ بفحص تصورات المركيز دوساد عن الله والطبيعة قبل الدخول في مسألة كيف يمكن أن يُرى أثر سبينوزا، بالإضافة إلى تعليقاته المفترضة حول فلسفة دو ساد.
أولاً وقبل كل شيء فإنّ دو ساد ملحد ومادّي (Bloch 2007, 117). هو ينكر أيّ ذكر لله، وبالذات "الله" كما تقدّمه الكنيسة المسيحية. في غياب الله، يجب أن تأخذ الطبيعة دور الخالق، وأيضاً كما سنرى لاحقاً، دور الوسيط في الأخلاق. ينبذ دو ساد، ويشبه سبينوزا في ذلك كثيراً، الربّ المسيحي «قمّة العقل الإنساني، ليس سوى الشبح خلق هذا العقل ليطور عملياته فقط» (دو ساد 2007، 22). دوساد لن يعترف بالله حتى يثبت العقل والمنطق وجوده، الأمر الذي يراه مستحيلاً. هذا الإنكار للربّ المسيحي كمادّة للعقل، يعطي الدليل على تأثير سبينوزا الفكري على دو ساد، ولكن يضعه بثقة في التنوير، بتركيزه على العقل الإنساني كاختبار مطلق للحقيقة.
يتابع دو ساد في دعم استنتاجاته. فهو يحدّد غاية الله وحضوره في العالم، بقوله إن الله إن كان موجوداً فسيكون مفيداً فقط، في بداية كل شيء ليضع الأشياء في الحركة، كونه المحرّك الأول. حالما ينتهي من هذا الفعل سيكون ملغياً بالنسبة لمخلوقه، من خلال فضيلة الحركة والقوة المبدعة المتأصلة في الطبيعة (دو ساد، 207، 22). الافتراض بوجود ربّ راسخ كما تحاجج الكنيسة، سيبدو رسوخه "مقيتاً" بالنسبة للبشر الراشدين، فالسماح للشيطان بتهييج العالم بقدرته الكلية يمكنه من التدخل بسهولة. لماذا، هو يسأل، يعبد الإنسان خالقاً مرعباً كهذا؟ فكرة أنّ الشيطان موجود في العالم، أو في الحدّ الأدنى الظلم، تدعم حجة دو ساد ضدّ الله. إن كان كاملاً، فإنّ ألوهيته يجب أن تكون كذلك، وسوف لن يقبل الظلم في العالم. على أية حال وكما يرى الكثيرون، فالطبيعة غير عادلة في كثير من الأحيان؛ هذا الصراع سوف يضع الله في كفاح راسخ ضد الطبيعة، منكراً وضعه كخالق ثابت (22).
هنا يحيلنا دو ساد، وبشكل خاص جداً، إلى تأثير سبينوزا. فهو ينكر بشكل مباشر إمكانية أن يكون الله والطبيعة من جوهر واحد، المبدأ الذي يشتقّ منه كل نظام سبينوزا الميتافيزيقي (Hampshire 2005 40)  دو ساد يؤكد أن هناك جوهرين في الكون (رغم أنه لا يشير إليهما مباشرة كجوهرين، ولكن كأشياء): "الخالق والمخلوق" (دو ساد 2007، 22). التحدي الوحيد هو تبيان ماهية الخالق، كشيء غير الله، يدعى الطبيعة.
القدرة المتأصلة في الطبيعة (كما يشير سبينوزا أيضاً) تسمح لها أن تخلق وتعالج المسألة دون حاجة إلى "عنصر غريب" أو إله (دو ساد 2007، 22). في الطبيعة يمكن لنا أن نتحقق من أسباب وتأثيرات تغيراتها، بما يسمح "لنزواتها" أن تكون معروفة من قبلنا. هذا الأمر مقترناً بموقفنا، كجزء من الطبيعة، يسمح لنظامها أن يُدرك من قبل العقل الإنساني. مع الله، ليست تلك هي المسألة. البشر لليوم لم يفهموا جميع المسائل في العالم، ولكن أن تكون الطبيعة سبباً حدسياً ومستمراً للتغير في العالم هو من الناحية المنطقية أكثر قابلية للإدراك من الإله كخالق. «كيف تريد مني أن أعترف بشيء لا أفهمه، شيء لا أعيه تماماً؟» (23). العقل والمنطق هما المفتاح المعياري لفحص ادعاءات من يزعم أنه الخالق الأصلي. دو ساد حين يركز على العقل والمنطق ويؤكد على أن الطبيعة يمكن أن تفهم منطقياً، فإنه متأثر بسبينوزا والتنوير الراديكالي. (للاطلاع على وجهة نظر سبينوزا، انظر هامبشير 41) على أية حال فإن تأكيده على ثنائية الخالق / المخلوق تكشف عن حالة دو ساد كمفكر تنويري رفيع.

دو ساد يضيف إلى جملة إثباتاته أن الإنسان يقف على رأس الترتيب الهرمي الطبيعي، ويستخدم هذا "التفوق" كحجة إضافية ضد الله. إن الله هو الخالق الأصلي، كما تقترح المسيحية، وخلق الإنسان على صورته، إذن فالإنسان يجب أن يكون كاملاً "وطيباً بالكلية" ومن جهة أخرى لم يكن ليستطيع أن يكون جديراً بصورة الله. (دو ساد 2007، 23). وأبعد من ذلك، حيث ترى الكنيسة فقط القدرة الكلية، الكائن الكلي القدرة، دو ساد لا يرى سوى التناقض، والبربرية :
لا أرى هناك سوى كائن ضعيف إلى الأبد غير قادر على جلب الإنسان من كعبه وإجباره على أن ينحني على ركبتيه. هذا المخلوق (الإنسان)، ورغم أنه منبثق منه، يهيمن عليه، يعرف كيف يهينه ويعذبه إلى الأبد! أي تابع ضعيف هو هذا الله! كيف له أن يقولب كل ما نعرفه، ويفشل في تشكيل إنسان على صورته! (دو ساد 23)
على الضد من ذلك، فالطبيعة قوية وتدير كل شيء. ما نعتبره الانحرافات الأكثر طبيعية، هي الأقوى: حاجتنا إلى الطعام، الشراب، والجنس. وبالنسبة إلى دو ساد الجنس هو الأكثر أهمية ويلعب الدور الأكبر في فلسفته (Bloch 2007, 117) البشر ملحقون بالطبيعة بطريقة لا تجعلهم مطلقاً، ملحقين بالله كما ذكر أعلاه. لأن البشر هم من الطبيعة، ولا يمكننا أن نفعل أي شيء يمكن أن يخرج عن قوانينها الطبيعية. من هنا، يستنبط دو ساد أننا يجب أن نعبد قوانين الطبيعة، ونطيع فقط الاندفاعات التي تمنحنا إياها (دو ساد 55). على هذا النحو ينتظم العالم، وبعصيانه نداء الطبيعة سوف يخرب نظام الأشياء والنتيجة بالنسبة إلى الطبيعة هي تصحيح الوضع، و"معاقبتنا بآلاف المشاكل" (29).
المشكلة التي تعقب ذلك هي كيف نعلم بإرادة الطبيعة. ذلك شبيه بمعرفة إرادة الله، قد يبدو الأمر مستحيلاً من النظرة الأولى، مع أني أعتقد أن معرفة إرادة الله يمكن أن تقارن بكفاح سبينوزا من أجل المعرفة الكاملة بالأسباب والنتائج (Hampshire 2005, 100). يمكن أن يكون هذا صحيحاً، ولكن دو ساد يحاول أن يمنحنا المنهج لبداية التعرف على الإرادة الكاملة للطبيعة. الخطوة الأولى هي في تلبية رغباتنا، لأنها تأتي فقط من الطبيعة. غرائزنا الأساسية هي الخطوة الأولى التي تقودنا باتجاه رغبات الطبيعة (دو ساد 2007، 55). يضاف إلى ذلك كما يمكن أن تقترح اللغة العامة، يمكننا أن ننظر إلى الحيوانات وبقية عناصر الطبيعة لنؤكد ميولنا البهيمية. بالنسبة إلى دو ساد، يدل ذلك على أن البشر يجب أن يركزوا على شيء واحد: الجنس. المتعة هي خاتمة ما علينا أن نناضل من أجله، وهو ما نجده في الجنس بشكل كبير (21). هذه الاستنتاجات سوف تناقش لاحقاً بمصطلحات الدين والأخلاق، ولكنها الآن كافية لقبول مبدئي باستنتاج دو ساد.
سألتفت الآن إلى تأثير سبينوزا على مفهوم دو ساد حول الله والطبيعة. كما رأينا فالرابط الأكبر تأثيراً في الميتافيزيقيات بين دو ساد وسبينوزا هي قضية الجوهر، وبشكل أساسي الكم والكيف. ملاحظة دو ساد الأساسية في نقاش سبينوزا، كون الله والطبيعة من ذات الجوهر، هي دليل قوي على أن دو ساد قرأ كتاب سبينوزا، واعتقد أنه قدم حجة فعالة يجب دحضها. بالنسبة لسبينوزا فالله والطبيعة من جوهر واحد لأنه لا يوجد سوى جوهر واحد؛ ما عدا ذلك، من غير الممكن ذاتياً إثبات ذلك تماماً، ولهذا فالسبب من ذاته (Hampshire 2005, 40). سبينوزا يرفض تماماً إمكانية أن يكون الخالق والمخلوق من جوهرين منفصلين، الأمر الذي سيخل بقدرة الخالق على أن يقرر ذاتياً ما يريد، وبدلاً من ذلك يبرهن على أن المخلوق هو جزء من الخالق. في حالة سبينوزا، الله أو الطبيعة لا يمكن أن يتصور كالرب المسيحي وهو ينظر إلى المخلوقات من فوق، ولكن كنظام جامع لجميع الأسباب والنتائج في الوجود (41-2).
رغم أن دو ساد يميز في حججه بين الطبيعة (الخالق) والبشر، الحيوانات، وغيرها (المخلوقات)، وبقدر ما يتعمق في نقاش علاقة الإنسان بالطبيعة، يقل تمييزه ما يصير عليه الاثنان. تجسيده للطبيعة بأن لديها "نزوات" و"رغبات" هو نوع من التضليل، عامداً إلى مماثلتها مع الرب المسيحي الذي دحضه للتوّ. على أية حال، وكما يقول هو بأن قوانين الطبيعة منطقية وضرورية لاستمرار وجودها، وأنها لا يمكن أن تسمح بأي فعل يتناقض معها، يبدو دو ساد أكثر اهتماماً بالأسباب الضرورية والنتائج التي طرحها سبينوزا حول الله والطبيعة. لأن كل شيء في كلام سبينوزا حول الله والطبيعة محكوم بالسبب والنتيجة، يمكن أن نرى كيفية تأثير هذه الفكرة على توجيه دو ساد البشر أن يحققوا رغباتهم لا أن ينكروها، لأنها تأتي من الطبيعة ذاتها ولذلك فهي تتوافق مع قوانينها. في كلا النظامين الميتافيزيقيين، الإنسان عبد لقوانين الطبيعة، رغم البنى المختلفة للسبب والنتيجة المتأصلة في الطبيعة.
لا أقول أن نظام دو ساد يختلف تماماً عن نظام سبينوزا بسمات أخرى. للوهلة الأولى فإن إنكاره الكلي لله أو أي تأثيرات إلهية أخرى، يتناقض مع تمييز سبينوزا للفكرة والامتداد كونهما من جوهر واحد (Hampshire 2005, 54). دو ساد ببساطة يزيل الإلهي (لدى سبينوزا: الفكرة) ويضع كلا جانبي الثنائية في قلب الواقع المادي. ربما هذه قراءة مبسطة لفلسفة دو ساد؛ ففي حين يضع كل القوى الخلاقة في الواقع المادي للطبيعة، فإن هوسه بالرغبة، رغم أنه ما يزال مادياً كما تظهر نفسها عبر الإشارات البيولوجية والاستجابات، تأخذ نوعاً من الدور الإلهي. أن تنكر رغباتك، بالنسبة لدو ساد، يعني أن تنكر تفوق الطبيعة، كما أن رفضك العبادة يعني إنكار وجود الله (بالمفهوم المسيحي). مرة ثانية، إذا تمعنا في أعمال دو ساد، تُظهر فلسفته تأثرات بسيطة بسبينوزا وفلسفة الأنوار الراديكالية ولكن في نفس الوقت، تخون تأثيرات الإيمان المسيحي والمفاهيم المشابهة للرب المسيحي.
ما يعقد القضية أكثر، هو توظيف دو ساد للغة سبينوزا في إنكار الله: «كل أفكارنا هي تمثيلات تواجهنا: ما الذي تقدمه لنا فكرة إله، والذي هو بشكل واضح فكرة دون موضوع؟ أليس مجرد فكرة، ستضيفها عندما تتحدث إليهم، إنه مستحيل تماماً كالنتائج دون أسباب؟ أليست فكرة دون نموذج أمراً ليس أكثر من هلوسة؟ (دو ساد 2007، 97). يصبح من الواضح جداً أن دو ساد يأخذ الصلة الميتافيزيقية بين الواقع والفكرة والتفكير به كمفهوم فعال، أو على الأقل مفيد. أعتقد أنه حتى سبينوزا سيوافق على أن النقص في الصلة بين الموضوع وفكرة الموضوع يجعلها مختلفة بالنسبة لنا، حتى لندرك وجود الرب المسيحي، باعتبار أن كل الصور التي بحوزتنا بشرية. لكن وكما نعرف، أو كما لقنا، أن الله أكثر من مجرد إنسان، كيف إذن يمكن أن نصلح فكرتنا عنه إن لم تكن لدينا صورة نطابق بها؟ أعتقد أن سبينوزا يمكن أن يعترض على الأرضية التي يفكر بها دو ساد، إنها مقبولة في ثنائية الخالق والمخلوق في عالم الطبيعة، وتؤكد أن تلك الفكرة والامتداد متشابكان في هذه الحالة.
نقد رئيسي آخر يمكننا أن نتخيل سبينوزا يوجهه إلى نظام دو ساد الميتافيزيقي والمتعلق بكيفية تقديمه. سبينوزا يعتقد أن الطريقة الوحيدة المناسبة لتقديم فلسفة أو نظام من الميتافيزيقيات مرتكز على المنطق، هي أن يخلو من لغة الكلام اليومي الوردية المقنعة (Hampshire 2005, 29). كتاباته الخاصة، رغم صعوبتها، تخلو من الاستعارة والوسائل الأدبية التي تستخدم في الجدال والفلسفة. دو ساد، بالمقابل، يوزع استعاراته عبر المشاهد الإباحية لفتاة بكر متعلمة بطرق خلاعية. في حين أن هناك غاية خلف المجون، بشكل رئيسي لتوضح المدى الذي يبني عليه دو ساد فلسفته العقلانية التي يجب أن تطبق في المجتمع (Bloch 2007, 120) المشاهد المصورة والواضحة لها تأثير في صرف انتباه القارئ عن الفلسفة، أكثر منها توضح المفاهيم الميتافيزيقية. دو ساد لا يخفي أيضاً تعاطفه السياسي من خلال عنوان كتيبه، «هذا جهد آخر، أيها الفرنسيون إن أردتم أن تصبحوا جمهوريين»(1) اقرأوا بصوت عالٍ لتوضحوا بعض مفاهيم الخلاعة، الذي تضمن أكثر مقاطع العمل كثافة فلسفية. حرصَ سبينوزا على الفصل بين آرائه حول السياسات المعاصرة له وبين كتاباته الفلسفية. حتى عندما كتب عن التنظيم السياسي المثالي، كان تركيزه على تتالي الأفكار، أكثر منه استجابة للأوضاع السياسية المعاصرة له؛ رغم بعض العناوين، يمكن متابعة نقاشات سبينوزا بصدد النزاعات السياسية والدينية التي حدثت في أثناء حياته (Hampshire 2005, 134-5).
من خلال نقاشنا للتأثيرات والفروقات بين المسائل الميتافيزيقية لدى الماركيز دو ساد وباروخ سبينوزا، أريد أن أشير كيف يمكن لهذه المقارنات أن تبدي نفسها في موضوعات الدين. دو ساد كما تتذكرون، يبشر بالإلحاد ومع أن سبينوزا غالباً ما اتهم بنفس الجريمة، فإن كلا الرجلين يختلفان حول الموضوع. على أية حال لا نريد بذلك القول أننا لا نجد آثاراً لأفكار سبينوزا حتى في موضوع حساس كهذا. معظم نقاشات دو ساد الجلية حول الدين يضمنها فلسفته في كتيبه آنف الذكر، "الفلسفة في المخدع". يبدأ بمقطع كامل حول الدين، خصوصاً الدين المسيحي، وفيه يجادل الفرنسيين في أن إلغاء الممارسة الدينية سيطيح بالحكم الملكي. دو ساد يعتبر أن الدين والملكية يدعم كلاهما الآخر للهيمنة على الناس، بالقول "إن سلطة الملك مدعومة من الكنيسة" (دو ساد 2007، 91) وبدورها الكنيسة تستخدم سلطتها في دعم الملك. هو يؤكد أن الثوريين إن أرادوا إقامة الديمقراطية في فرنسا عليهم أن يتخلصوا من جميع آثار النظام القديم "الصولجان والمبخرة على حد سواء" (92).

بالنسبة لدو ساد الإلحاد هو "عقيدة جميع الميّالين إلى العقل" (دو ساد 2007، 93)، وأبعد من ذلك فنحن نتقدم كمجتمع بقدر ما يقل احتياجنا للدين. بقدر ما نعرف من خلال العلم والمنطق، بقدر ما نجد أن الطبيعة هي المصدر الأصلي للحركة والخلق و"المحرك الأول مجرد وهم"، وهو حتى في أوليته، يراه دو ساد عديم النفع (دو ساد 2007، 93). المجرمون من البشر ومنتهكو قانون الأخلاق البشري لا يهتزون جراء تهديدات العدالة وعقاب القانون. إن لم يقتنع المجرم بالألم المادي في حياته الحالية، لماذا عليه أن يخاف من المحاسبة يوم الدينونة؟" آه صدقوني أيها المواطنون" يكتب "الإنسان الذي لا يمتحن بسيف العدالة سيكون من الصعب إيقافه عن طريق الخوف من عذاب الجحيم، الذي سخر منه منذ طفولته؛ بكلمة واحدة، العديد من الجرائم هي نتيجة إيمانكم، ولكن إيمانكم لم يجنبكم جريمة واحدة" (95).
هذا يقودني إلى حكم دو ساد النهائي: الدين يعجّ بالطغاة والفساد. الكهنة الفاسدون يعملون قوّادين للملوك والطغاة الذين يحكمون البلد، ونحن نضع أرواحنا وخلاصنا بين أيديهم. هؤلاء ليس لديهم إثبات أن الله موجود، يطلبون منا أن نعيش حياة أخلاقية هانئة مؤمنين أنّ يوم خلاصنا آت لا محالة، ثم يلقون بهذه الأخلاقيات نفسها جانباً في حياتهم الخاصة (دو ساد 2007، 98). رغم أن هذا النقد لم يحذف تماماً بما يتصل بالعلاقة النهائية بين الكنيسة والحكم الملكي، فإنه يختلف بكونه يركز على نفاق الكنيسة. النفاق يتجلى في ملاحقة الجماهير لتسمع وتطيع من خلال أوهام القداسة. دو ساد كشخص منطقي، ومفكر عقلاني لا يمكنه أن يقبل ممارسة الحيل والألاعيب عندما يمكن استخدام المنطق والعقلانية فقط.
الفكرة الأخيرة كما ناقشناها سابقاً، واحدة ويدعمها سبينوزا بنفسه. الطريق الوحيدة بالنسبة لشخص يعتبر نفسه عقلانياً هو متابعة الآخرين من خلال المنطق والعقلانية (Hampshire 2005, 29). هذه الفكرة هي الأساس في نقد سبينوزا للكتاب المقدس. يمضي سبينوزا عبر الكتاب المقدس ويأخذ ما تقوله النصوص حقيقة بدلاً من تأويلات الكهنة والعقيدة الكنسية (سبينوزا 2004، 99). سبينوزا يجد أن العظات الأخلاقية الواردة في الكتاب المقدس يمكن أن تساعد أولئك الذين لا يقودهم العقل في جميع الأوقات ليعرفوا الطريق القويم، وبشكل رئيسي من يتيح لهؤلاء الخاضعين للعقل أن يبحثوا عن المعرفة الكاملة دون عائق (Hampshire 2005, 149 – Spinoza 2004, 245). وهكذا نجد نقطة الاختلاف الحاسمة بين دو ساد وسبينوزا. فدو ساد يشمئز من الدين ويختار طريق الإلحاد، ليس فقط بالنسبة له، ولكن أيضاً باعتباره الطريق الصحيح للبشرية جمعاء. سبينوزا بالمقابل، لا يعتبر نفسه ملحداً، رغم أنه يُسائِل بشدة سلطة الكنيسة ودورها. إضافة إلى أن سبينوزا يعي تماماً أن ليس جميع البشر عقلانيين ومنطقيين في جميع العصور؛ في الحقيقة هؤلاء يشكلون نخبة قليلة العدد في المجتمع. وغالبية الناس تحكمها أهواؤها اللاعقلانية ورغباتها. سبينوزا لا يستحسن أن يترك هؤلاء الناس يتابعون طريقهم اللاعقلاني ويأتون إلى الكنيسة توسلاً للنصح الأخلاقي، ولن يطول الأمر حتى تمتنع عن الإجابة عن أي نوع من الأسئلة الميتافيزيقية (Hampshire 2005, 150-1; Spinoza 2004, 252). أعتقد أن دو ساد أخذ بعض أفكار سبينوزا ومضى بها إلى نهاياتها القصوى، راغباً في أن يُحكم جميع البشر بالعقلانية ويطردون بالتالي الكنيسة من حياتهم ومجتمعهم الجديد.
زبدة الأفكار هنا هي أن تأثير سبينوزا يمكن أن يُرى بشكل كبير في كيفية نقد دو ساد للدين ومهاجمة الكنيسة لإحلالها الاحتيال والخدع محل المنطق في مسألة الحياة بعد الموت، بممارستها السلطة على عامة الناس لدعم وتثبيت حكومة طغيان. كان سبينوزا متحمساً للفصل بين الدين والدولة (Hampshire 2005, 149) وأعتقد أنه يمكن أن يتفق مع دو ساد في هذه النقطة. الحكومة يجب أن تتحقق من تأثير الكنيسة. في جميع الأحوال لم يمضي سبينوزا إلى حد القول بضرورة حظر جميع أشكال الدين من الدولة (سبينوزا 2004، 245). في هذه النقطة بالذات تظهر فلسفة دو ساد أقل صقلاً بالمقارنة مع سبينوزا. فدو ساد يعتقد أنه بفصل الدين عن الدولة سيزول، وأن الذين آمنوا يوماً ما، سينتصرون عن طريق الحجج المنطقية والعقلانية (دو ساد 2007، 92). سبينوزا يتناول ما يبدو مقاربة أكثر عقلانية بالنسبة إلى مشكلة الدين في الدولة. فالكنيسة يجب أن تنزع عنها ادعاءاتها الميتافيزيقية؛ فهذه يجب أن تترك للدولة.
على أية حال، ما دام جميع البشر سيحكمون بالعقل (على العكس مما يعتقد دو ساد)، سيسمح الدين للناس العاديين أن يعيشوا بسلام، بالتوصية بالأخلاق الحميدة، الاهتداء بالحياة القويمة. هذا التنازل عن الدين لصالح عامة الناس يرتكز على فكرة سبينوزا أنك لا تستطيع أن تسيطر على ما يجري داخل رأس الإنسان (سبينوزا 2004، 257)، والتي هي حقيقة محورية يبدو أن دو ساد أهملها، لصالح حجته ضد الدين.
أخيراً نعود إلى قضية الأخلاق، وتحديداً، مفهوم الخير والشر في فلسفة دو ساد. فبالنسبة له فإن الأفكار العامة حول الخير والشر، خاصة عندما تربط بالأخلاق، مشتقة من الكنيسة (دو ساد 2007، 91). التوجيهات الأخلاقية التي يتبعها غالبية الناس مشتقة من عقيدة الكنيسة، ثم أصبحت "إرادة الله" بهدف الحفاظ على سلطة الكنيسة. منذ أن اشتقت المعايير الأخلاقية من الكنيسة، والتي هي مؤسسة زائفة ولا علاقة لها بالموضوع، فإن دو ساد نادى بإحلال أخلاق الطبيعة محل أخلاق الكنيسة (99). فالطبيعة بالنسبة له هي كل شيء. إن كان الأمر كذلك، كيف علينا أن نتبع قوانين سوى قوانين الطبيعة؟ فهي تقرر كل ما نفعله، وبالتالي من الناحية المنطقية، ستقرر ما هو خير وما هو شر. فالفعل سيكون شريراً إن تحدى القانون الطبيعي، وخيراً إن تساوق معه (29). ما دام البشر هم جزء من الطبيعة، فعندما يتبعون رغباتهم، فإنما يفعلون ما يوافقها. من هنا يخلص دو ساد إلى أن أي ميول لدى البشر يجب أن تكون طبيعية، وبالتالي خيرة، ما عدا تلك التي تمنعنا من إشباع رغباتنا (43).
سبينوزا سيتفق مع دو ساد حول هذه النقطة (Hampshire 2005, 115). التصور الأكثر فردانية عن الأخلاق والذي هو نتاج الكنيسة ويرعاه الدين، يجب إخضاعه للنقد. على أية حال، هو لن يذهب أبعد من ذلك، كأن يقول بأن نبذ الدين يعني نبذ النظام الأخلاقي وتعاليمه. أعتقد أن لدى سبينوزا بعض الهواجس بخصوص الاحتفاظ بمعايير الدين الأخلاقية ما دام ممكناً استنتاجها من العقل والحس الفعال (107). إضافة إلى أن الخيال لا يتسع لنرى سبينوزا معارضاً لأخلاق دو ساد "الحرية للجميع" التي تنتج عن مفهوم الأخير عن الخير والشر. هذا الاعتراض سيكون أوضح كلما ناقشنا العلاقة بين تأويل دو ساد للخير والشر والرغبة والجريمة.
الرغبة هي أكثر الأجزاء أهمية في مفهوم دو ساد عن الأخلاق. وهذا يظهر كتأثير مباشر للعلاقة بين مفاهيم الخير والشر وقوانين (نزوات) الطبيعة، بالقدر الذي يركز على الجنس والجنسانية. حتى نعرف ما هو الخير أو الشر، علينا أولاً أن نعرف قوانين الطبيعة، التي تتكشف لنا عبر رغباتنا (دو ساد 2007، 43). على البشر أن يكونوا في قلب الطبيعة ولا يخرجوا عن أي من قوانينها. ما عدا ذلك فإن البشر سيكونون غير طبيعيين، أو خارج الطبيعة، الأمر غير الممكن بالنسبة للميتافيزيقيا لدى الرجلين، دو ساد وسبينوزا. بالنسبة للأول يجب على البشر ألا ينكروا على أنفسهم أياً من رغباتهم، لا يهم ما هم عليه، فإنكارها سيكون مناقضاً للطبيعة وغير أخلاقي (49).
رغم استنتاجات دو ساد المتفرعة (بعض الشيء) من نقطة عامة من ميتافيزيقيا سبينوزا، فإن الأخير لا يتفق مع فكرة أن علينا أن ننصاع لأي من رغباتنا أو حتى لجميعها. سبينوزا لا يوافق على الصلة بين الرغبة والطبيعة، رغم أنها تتصل بالطبيعة من خلال نزعة طبيعية. جميع الأشياء تتجه نحو الأفعال التي تؤمن لها الحماية الذاتية؛ هذا الميل متأصل بشكل طبيعي في كل شيء (Hampshire, 2005, 101). على كل حال، يشرح سبينوزا أن الرغبة يمكن أن تتجلى بشكل زائف حين تتيح لنا المعرفة المنقوصة بالسبب والنتيجة، الحماية الذاتية/ الرغبة بالموضوعات التي تؤثر علينا بشكل غير مباشر بدلاً من معرفة ما الذي يخلق لنا فعلياً المتعة (105). يمكن للرغبة بالنسبة لسبينوزا، أن تظلل قدرتنا لنقرر حقيقة السبب والنتيجة، وبالتالي تمنعنا من جني المزيد من المعرفة الكاملة والإبقاء على نزعتنا الطبيعية (106، 108). الرغبات تصبح جزءً من العقل البشري العاطفي، غير العقلاني، وبالتالي لن تكون مفلتة العنان كما يقترح دو ساد. هذا الاعتراض يصبح مقنعاً أكثر عندما نتفحص توجيهات دو ساد بخصوص حتمية الأفعال الجنائية من إطاره الأخلاقي.
دو ساد يشرح القانون الجنائي كما يرتكز على المفاهيم الدينية الأخلاقية للخير والشر. ما دامت القوانين الجنائية مرتكزة على أخلاقيات دينية "مهجورة"، يقترح دو ساد إعادة كتابة هذه القوانين بالقياس إلى القانون الطبيعي (دو ساد 2007، 99). يقوم باختبار العديد من الجرائم، جميعها جرائم وقعت تحت بند النظام الأخلاقي الجديد. المثال الأشد سطوعاً في مناقشتنا هو عدم اعتبار القتل جريمة. عندما تكون الرغبة هي معيار الخير، عندها لا تستثنى حتى الرغبة بالقتل اعتماداً على ما سبق تَعَلُمُه من أخلاق تبغض الجريمة. يجب ألا يعامل القتل كجريمة، ما دام لا يخرق قوانين الطبيعة (121).
سبينوزا كحال الكثير منا، كان ليشمئز من فكرة القبول بإلغاء القتل من شيفرة الجريمة. على أي حال، فإن ردة فعله سوف ترتكز ليس على "تغير أخلاقي" ولكن على شيء أكثر منطقية. كل كائن عاقل يكافح للوصول إلى السعادة أو المعرفة الكاملة للأسباب والنتائج سواء كانت من عمل الله أم الطبيعة (Hampshire 2005, 98) للعمل باتجاه هذا الهدف، هناك حاجات أساسية لبقاء الذات يجب العناية بها. الغذاء، المأوى، والدفاع ضد الأعداء، هذه الأمثلة الثلاثة من الحاجات يجب أولاً أن تتلاقى حتى يتم فحص عمل الأسباب والنتائج على مستوى عالٍ. سبينوزا يفترض أن الناس يكونون مجتمعات لأجل حماية الذات وللحصول على فرصة الوصول إلى المعرفة الكاملة (136، 138). العاهل المسيطر يضمن مسائل من نوع الحماية من الألم بالعودة إلى شيء قليل الأهمية (كالمال مثلاً)، وكل شخص قادر على أن ينفق الكثير من الوقت في اختبار السبب والنتيجة في ملاحقة حقيقة السعادة (سبينوزا 2004، 207). لو وجدت شيفرة الجريمة لدى دو ساد في مجتمع سبينوزا، لسوف ينهار، لأن العاهل لن يقدر على منع الخوف من الألم لدى مواطنيه. مع الخوف من أن تقتل، سيكون من الصعب صرف الوقت في البحث عن المعرفة الكاملة أكثر من أن تفكر في حماية نفسك. بالنسبة لسبينوزا، ستهزم الغاية من امتلاك شيفرة أخلاقية، هدفها المساعدة، أو تمكين كل فرد أن يرتبط في البحث عن المعرفة/السعادة الكاملة. يمكننا أن نرى ثانية أن دو ساد بدأ هذا الجانب من الفلسفة تحت تأثير من ميتافيزيقيا سبينوزا الراديكالية، ولكنه وصل في هذه المسألة إلى نتائج متطرفة عندما حملها إلى النهاية الراديكالية المنطقية.
عند هذه النقطة سوف أنهي مناقشتي لفلسفة الماركيز دو ساد وباروخ سبينوزا. فمن خلال الأمثلة التي أوردتها، وبالمقارنة بين أفكارهما عن الله، الطبيعة، الدين، والأخلاق، رأينا تأثيرات سبينوزا على دو ساد. رغم أن جزءًا كبيراً من عمل دو ساد يرفض هذه التقاطعات مع عمل سبينوزا، لا يمكننا أن ننكر أن سبينوزا ساهم في تشكيل فلسفة دو ساد. في حين أنه من الصعب أن نعرف بالضبط كيف كان أثر سبينوزا على دو ساد، لكن استخدامه المفاهيم واللغة السبينوزية، يثبت أن دو ساد كان على اطلاع على عمل سلفه التنويري الراديكالي.

هامش:
-1- الحوار الخامس من كتابه الفلسفة في المخدع

المراجع المذكورة:
Bloch, Iwan. 2007. Marquis de Sade: His Life and Work. Trans. James Bruce. 1899: 3-139.
Supervert 32C Inc., http://supervert.com/elibrary/marquis_de_sade.
de Sade, Marquis D. A. F. 2007. Philosophy in the Bedroom. Trans. Richard Seaver and Austryn Wainhouse. 1795: 1-144. Supervert 32C Inc, http://supervert.com/elibrary/marquis_de_sade.
Hampshire, Stewart. 2005. Spinoza and Spinozism. New York: Oxford University Press.
Spinoza, Benedict de. 2004. A Theologico-Political Treatise and A Political Treatise. Trans. R.H.M. Elwes. Mineola, NY: Dover Publications, Inc.


المصدر: موقع الأوان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق