ترجمة: محمد العرابي
"المادة ... تعريفها غير
ممكن بغـير الاختلاف
اللا مـنطقي الذي يمثل بالنسبة لاقتصاد
الكون نفس ما تمثله الجريمة
بالنسبة للقانون". جورج باطاي
Marquis De Sade by Kalevipoeg |
المسألة
المطروحة من خلال الاسم الممتنع ظاهريا للماركيز دي ساد يمكن تلخيصها بلا
شك على هذا النحو: كيف يعقل أن النص السادي (نسبة إلى ساد) لا يوجد كنص
بالنسبة لمجتمعنا وثقافتنا؟ ولماذا يصرُّ هذا المجتمع وهذه الثقافة على أن يرى في
عمل من ثمرة الخيال، سلسلة من الروايات، مجموعة مكتوبة، شيئا أكثر تهديداً وخطورة
من واقع، يمكن وحده أن يؤدي إلى ذلك؛ واقعٍ لن يكون منذئذ، نتيجة لهذه النبرة
الخفائية التي يجد نفسه موسوماً بها، إلاّ واقعاً مقدساً؟
كيف يعقل إذن، أن نصاً بهذه الضخامة، والإنسجام والتدقيق ويتم بشكل مفارق التصريح
عنه، بأنه رتيب ومضجر، في حين يعتبر هو من بين النصوص الأكثر تميزاً وفرادة والأكثر
إثارة في مكتبتنا، كيف يعقل إذن، أن هذا النص يقرأ أو ينشر في آن بشكل مجزأ، ويتم
اختزاله في بعض الدلالات الكبرى، لكي تُنعت بعد ذلك بأنها دلالات فريدة؟ وزيادة في
الدقة، كيف يعقل، أننا ننساق إلى طرح فكر ساد بمعزل عن كتابته، هذا
الفكر الذي سيكون بحسب الحالات، وبحسب تقمصنا لدور المتَّهِم أو المتهَم، أي بحسب
خضوعنا لصيغة من صيغ التعبير القضائي ومن ثم البلاغي، سيكون إما مرضياً ولا إنسانياً،
أو لنقل: واضحاً، جريئاً، وتفسيرياً لحدث إسمه الإنسان؟
كيف يعقل أن يظل ساد مرفوضاً ومقبولاً في آن: مرفوضاً كعمل تخييلي [ككتابة]،
ومقبولاً كواقع؛ مرفوضاً كقراءة شمولية، ومقبولاً كمرجعية سيكولوجية أو فزيلوجية؟
يمكن أن نجازف بتقديم إجابة على الفور: نحن لم نقرر بعد قراءة ساد،
من منطلق أن القراءة الجديرة به، لا توجد في بنية هذا المجتمع وهذه الثقافة؛ والأهم،
أن ساد يلغي جذرياً كل أنماط القراءة التي نواصل ممارستها وننوي القيام بها
بشكل تعميمي. وهذا بالمعنى الذي يجعله يفترض وجود علاقة، محجوبة من طرف الخطاب وإن
أصبحت نشيطة منذ زمن، تنظر إلى الفكر ليس باعتباره علة للغة، بل باعتبار أن اللغة
لا علّة لها، وتنظر إلى الكتابة باعتبارها دالاً محضاً.
لأن ما يبرز مع ساد هو تغيير عنيف، وكامل،
للكتابة التي عانت طويلاً من الكبت من لدن الكلام الإلهي. وما يبدو أنه يقع تحت
المظهر المتوحش للانحلال (perversion) ، هو بالضبط نقيض العصاب
المؤسس من لدن حضارة قائمة على تمجيد هذا الكلام. وهذا تحديداً، ليس بالفوضى،
بل مستوى من خلق العالم شرط أن يقاوم، لكونه تدميراً وإعادة إنتاج لمجموعة
تقع نهباً للعبة بدئية، كل فكرة تفيد توقف عملية الخلق، وانتهاءها، وارتباطها بقصد
معين.
وإذا كان لا بد من تعيين بؤرة للكتابة
السادية، فلن تكون إلا هذه: إبطال كل سببيّة، بحيث أن هذا الإبطال ينتهي بعد أن نقض
الإله بالطبيعة، بالتضحية بالطبيعة في سبيل حركة لا متناهية من الكلمات تتضاعف وترتقي
في دلالتها الخاصة: «إننا غير مرتبطين بالإله ولا حتى بالطبيعة، يقول ساد، الأسباب
قد لا تكون ضرورية للنتائج».
فأن يتم أخيراً امتصاص العالم في خطاب
مادي، وأن تعين الطبيعة تبعاً لذلك، كما كانت دائماً كجدلية سلبية للثقافة، وأن نتمكن
إذن للحظة من الإقرار بهدوء: ينبغي على الطبيعة أن تمر عبر استيهام الثقافة
– فهذا، لعمري، ما لا سبيل إلى غفرانه. ويكفي أن يوجد نص ساد في أي من
مجتمعاتنا، لكي تتسلل إليه عدوى وباء ظلَّ كامناً وآن أوان ظهوره، وكي تطوح ريح
صامتة بزيف المبادئ التي تقوم عليها معرفتنا، ولكي يُخلخَل مرتكزها الطبيعي
والمعياري ويُلغَّم مرة واحدة وإلى الأبد.
وعلى هذا النحو نكون قد نُبِّهنا إلى الحدّ الذي قررنا، رغماً عنّا، مواصلة
العيش تحت سقفه. ومن المهم الآن مساءلة هذا التنبيه.